المركز العراقي الافريقي للدراسات الاستراتيجية
الموقع الرسمي

إثيوبيا بين النهضة الإقتصادية والتخلف السياسي . تأملات في المشهد السياسي

0

إثيوبيا بين النهضة الإقتصادية والتخلف السياسي

تأملات في المشهد السياسي

تعيش الدولة الإثيوبية مرحلة استثنائية في تاريخها ، فليست تلك الدولة المعروفة في التاريخ بأنها دولة مركزية تحكم من العاصمة ، وتكون الأطراف تابعة لها ، فقد ولى هذا العصر يوم ان سقط النظام الشيوعي ( الدرچي ) من السلطة وتولت الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية بقيادة المناضل الأسبق ، ورئيس الوزراء السابق السيد / ملس زيناوي ، وما زالت الجبهة هي الحاكمة منذ ذلك الحين ، وهي التي فازت بكل المقاعد في المجالس التشريعية الإتحادية والإقليمية الأخيرة متحالفة مع الأحزاب المتجانسة معها .

في مقولة كبيرة في علم الفلسفة لها أهميتها في الحياة وهي ، ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، وهي مقولة لا يلتفت إليها صناع القرار في العالم الثالث ، ولكنها جديرة بالوقوف أمامها طويلا ، والتأمل فيها ، لأنها تحمل في طياتها إجابات كثيرة عن ما يجري الآن في هذا الوطن المهم في القرن الأفريقي ، ونحاول أن نعود إليها شرحا وتفسيرا في المقال ذاته ، ولكني قرأت مرة كتابا لأحد المفكرين الإقتصاديين المصريين ( التنمية الوهمية ) ، وهي التنمية المبنية على الأرقام والإحصائيات البعيدة عن تحقيق التنمية الإنسانية المتكاملة ، وقد ذكر الباحث المصري في كتابه أن الحديث عن التنمية الفوقية التي تتجاوز الانسان البسيط لن تبقى طويلا ، حتى ولو أخذت شهادات التقدير من المنظمات المالية في العالم .

لدينا تجربة سنغافورة الإقتصادية ، فقد جمعت التجربة بين أمرين هامين ، التنمية الإقتصادية ، والبناء المعرفي للإنسان ، فلا يمكن بناء إقتصاد مستدام بدون بناء مؤسسات تعليمية نوعية ، ومن هنا نجحت التجربة في بناء الإقتصاد السنغافوري النموذجي ، ولدينا كذلك التجربة الماليزية الناجحة بكل المعايير ، فهي الأخرى قامت على المزاوجة بين التعليم الراقي وبناء الإقتصاد ، ولهذا قال مؤسس ماليزيا محمد مهاتير : تعلمت من تجربة الحكم أن مشاكل الدولة لا تنتهي ، ولكني وجدت أن التعليم مفتاح المشاكل ، ولدينا كذلك التجربة التركية الناهضة ، فهي الأخرى أيضا انتهجت الطريق ذاته في البناء الإقتصادي ، فقد كرر أوغلو رئيس الوزراء السابق لتركيا ، وهو أحد بناة المشروع ومنظريه : يجب أن تكون الدولة في خدمة الإنسان ، وليس الإنسان في خدمة الدولة ، وهذا الكلام كذلك موجود بشكل فلسفي في كتبه الأكاديمية ، لأن العالم الثالث انتهج العكس في مسيرته التاريخية مع الدولة ، ولأجل تكوين تجربة جديدة وناجحة فلا بد من طرح معادلة معكوسة .

في رأيي ، التجربة السنغافورية والماليزية نجحتا مع غياب التجربة الديمقراطية ، والتجربة التركية نجحت بوجود العملية الديمقراطية الناشئة ، ولكن المشترك في التجارب الثلاثة هو وجود معرفة نوعية ، ورؤية عند القيادة في صناعة التنمية ، وهذا يؤكد المقولة التي تقول بأن التجربة الديمقراطية ليست شرطا في صناعة الإقتصاد ، ولكنها لا شرط أساسي في استدامة التنمية ، ذلك لأن الأنظمة الشمولية تحاول تغييب الإنسان بشكل أو بآخر ، ولهذا نجد اليوم أن ثمة من يؤكد بأن التجربة الماليزية قد لا يمكن لها الإستمرار ما لم تنخرط المؤسسات السياسية في لحظة تجدد دماءها من خلال الدخول في عالم الديمقراطية .

•إثيوبيا نهضة اقتصادية قوية .

في العقدين الماضيين تحققت في إثيوبيا تنمية قوية لاحظها كل المتابعين في الشأن المالي العالمي ، وفي الشأن الأثيوبي بشكل أخص ، يقول بنك التنمية الأفريقي : إن إثيوبيا التي تعتبر موطنا لأكثر من 80 مجموعة عرقية ، هي واحدة من أسرع الإقتصاديات نموا في العالم ، حيث بلغ متوسط النمو نحو10% خلال العقد الماضي .

وتحدث البنك الدولي عن الإقتصاد الإثيوبي ، ووصفه ( بالركض العظيم ) ، وأشار التقرير بأن النمو المستمر نجح في تقليل الفقر بشكل كبير من 44% في عام 2000 م إلي 33% في عام 2011 م .

يتوقع تقرير صدر من مؤسسة ( إرنست آند يونغ ) أن تحتل إثيوبيا مرتبة بين أربعة مراكز للتصنيع في أفريقيا بحلول عام 2025 م ، وقبل سبع سنوات ، لم تستطع البلاد استقطاب استثمارات أجنبية سوي بنحو 108.5 مليون دولار ، ولكن الإستثمارات الأجنبية وفقا لتقديرات البنك الوطني الإثيوبي بلغت في الأعوام الثلاثة الماضية نحو 3.5 مليار دولار ، وتتحدث جهات قريبة من القرار بأن الصين تمثل أكبر المستثمرين ، بينما تأتي الدولة التركية والهند في الدرجة الثانية ، ويؤكد فيستيم أريغا ، رئيس وكالة الإستثمارات في الدولة بأن الولايات المتحدة والإتحاد الأوربي موجودين بقوة في عالم الإستثمار .

نحن نعرف أن إثيوبيا تريد التحول من عالم الإعتماد المطلق على الزراعة ، والدخول في عالم الصناعة ، ومن هنا تركز في إيجاد الطاقة البديلة بكل ما أوتيت من قوة ، وهذا هو السبب الأساسي في بناء سد النهضة الذي أطلق ( مشروع الألفية الثالثة ) ، وتقدر تكلفة إنجاز السد بنحو 4.7 مليار دولار ، وعند اكتماله سيكون أكبر سد كهرومائي في أفريقيا ، والعاشر في العالم في قائمة أكبر السدود إنتاجا للكهرباء .

إن هذه الدولة التي عرفت في التاريخ بأنها بلد المجاعات في المحافل الدولية بدأت تنهض من جديد لنرى التقارير الدولية ، والتي تصف إثيوبيا بأن إقتصادها يمثل الأكثر نموا في العالم ما بين عام 2007- 2012 م .

•التنمية في إثيوبيا ، وازدياد المخاوف من ضياعها .

هناك مخاوف شديدة من المراقبين الدوليين ، والمحليين من استمرارية التنمية في هذه الدولة ، وهذا المخاوف تنتج من وجود أربعة أمور في داخل هذه الدولة الناهضة وهي :

1. وجود الجيش في التنمية الإقتصادية ، مما جعل الجيش دولة في داخل الدولة ، وكأن النظام يريد استنساخ التجربة التركية ، والمصرية ، وليس خافيا بأن الدولة تعتمد على الجيش والمؤسسة العسكرية في تأسيس المشاريع القومية ، وعملية النمو المتسارع والتنمية ، وبهذا يكون لهذه المؤسسة تداخل مع الإستثمار الخاص في مشاريعه ، ومن المعلوم كذلك أن شركة ( METEC ) المتخصصة في النقل مملوكة للجيش ، وهي الأولى في الوطن من حيث الإستثمار ، وهذا يؤدى إلي تسييس المؤسسة العسكرية المفترضة فيها بالحيادية المطلقة في الشأن السياسي .

2.  الفساد الإداري الناتج من غياب الديمقراطية في الدولة ، فقد أصبح الحزب الحاكم هو الوحيد الذي حصل جميع المقاعد في الإنتخابات الأخيرة ، ومن هنا غاب المراقب والمحاسب من هذه العملية المالية الكبيرة .

3. التداخل ما بين الخاص والعام في التنمية ، وهذا النوع من التداخل تشكو منها الكثير من الدول التي تمر التجربة ذاتها ، ولكن البعض من المراقبين يشيرون كذلك إلى ضعف القدرات التنفيذية للشركات التابعة للحكومة .

4. وجود دكتاتورية جماعية في السياسة العامة للدولة ، وهي كذلك تصنع مشاكل أمنية واجتماعية قد تنفر الإستثمار الخارجي .

هذا ما تتحدث بعض التقارير ، ولكن الجميع متفقون بأن النجاح أكبر من الفشل ، وأن المستقبل القريب جيد ولصالح الدولة ، ذلك لأن الفرص الموجودة أكبر من العقبات ، فهذا جيد وصحيح . ولكن المشكلة في إثيوبيا ليست إقتصادية فقط ، بل هي في الأساس سياسية ، والقفز عليها ليس من الحكمة في صناعة النهضة ، وهذا ما تنبه له السياسي في البدء ، وأسس لمشروع سياسي توافقي في ( الدستور الحديث ) بحيث يخلق أثيوبيا الحديثة المبنية ب( العقد علي العيش المشترك ) ، ولكن لأسباب سياسية تم تجاوز المسألة ، والذهاب إلى الإقتصاد ، وهذا فخ تقع فيه كثير من الدول حين تحاول التجاوز علي المشكلات الأساسية ، وجعل الزمن وحده كفيلا في حلها .

•التخلف السياسي فيروس في هدم الدول .

حقق العراق تنمية إقتصادية لا بأس بها في عهد السبعينات من القرن الماضي ، ولكن سياسات السلطة الخاطئة جعلته يفشل في بناء النموذج السياسي للدولة الحديثة ، فلم يعرف العراق تنمية سياسية ، لذا نجد الازمة الحالية في بناء الدولة ، فالمشكلة تكمن دائما في تغييب التنمية السياسية ، والإهتمام البالغ بالتنمية الإقتصادية ، وهذا هو ما نعني به في قولنا : ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان ، فليست أشواقه محصورة في معدته .

وفي بداية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين تناولت التقارير الدولية تنمية كبيرة تحققت في تونس في عهد بن علي ، وأشارت التقارير بالإحصائيات وألأرقام نوعا من النمو تحقق في هذا البلد ، بل وأشار البعض بأن تونس ستصبح ــــــ وفق هذه التنمية ـــــ نموذجا للعالمين العربي والأفريقي ، ولكن الشاب التونسي ( بوعزيزي ) الذي أحرق نفسه في الشارع أعلن مدى الفساد السياسي الذي يقبع وراء التنمية الوهمية الدي تحدث عنها سابقا جلال أمين في بعض كتبه .

•هل يمكن لدولة ما تحقيق تنمية اقتصادية بدون نجاح في المجال السياسي ؟ وهل من الممكن أن تقوم تنمية في عالم الفساد السياسي والإجتماعي ؟

التنمية عملية انتقال تدريجي من المؤسسات التقليدية إلي المؤسسات الحديثة ، فهذا يتم ضمن محورين ، وغالبا ما يكونان متداخلين ، المؤسسات ، والمجتمع ، وتكون العلاقة بينهما جدلية ، فلا يمكن تحقيق تنمية على المستوي المؤسساتي ، ويكون المجتمع متخلفا بمفاهيمه وأفكاره ، والعكس كذلك صحيح ، فليس من الممكن تنمية مجتمعية بغياب مؤسسات حديثة ، ولهذا نجد اليوم في إثيوبيا حديثا عن تنمية حقيقية في المؤسسات ، ولكن بمواجهة حقيقة أخرى تتمثل في تخلف الانسان الأثيوبي الذي ما زال كما كان في الماضي .

التنمية عملية ( process ) ، وليست مرحلة كما يظن البعض من صناع القرار ، وأنها كذلك مفهوم حركي ديناميكي مجتمعي ، وليست فقط تغييرا في الهياكل السياسية ، وأنها كذلك عملية مفاهيمية مرتبطة بتغيير الفكر والسلوك .

في إثيوبيا مشكلة سياسية تحتاج إلي إيجاد حل جذري لها ، وهي مشكلة الصراع ما بين المركز والهامش ، من يمثل المركز ؟ ومن يمثل الهامش ؟ وما المعيار ؟ هل القوة العسكرية هي المعيار ؟ أم ثمة قوى أخرى ظهرت لتكون المعيار في صناعة المركز والهامش ؟

لقد كان الأمهريون قديما المركز في صناعة القرار في هذه الدولة العتيقة لقرون مضت ، وقد تم إزاحتهم من ذلك المركز بعد نجاح الثورة التي قادها التجراي في بداية العقد التاسع من القرن العشرين المنصرم ، وأصبح التجراي بعدئذ القوة المركزية في الدولة ، ولكن السؤال هنا ، كيف ، وبماذا تم إزاحة الأمهريين عن المركز ؟ هل كان الأمر مرتبط بالسنن الاجتماعية التي تحكم الدول ؟ أم كان وراء ذلك ما جري في اللحظة من تحولات عالمية إثر انهيار الإتحاد السوفيتي ؟

قد يكون الرأي الأول صوابا ، وقد يحمل الرأي الثاني شيئا من الصحة ، ولكن الذي لا شك فيه بأن ثمة تحرك جرى في المعادلة السياسية ، فقد ذهبت قومية إلى المركز ، بينما هوت قومية أخرى إلى الهامش ، فهذه سنة كونية في المداولة التاريخية ، ولكنها لا تأتي اعتباطا ، ولكن الملاحظ هنا في الآونة الأخيرة، أن الوعي تبدل ، لأن هناك قوى اجتماعية بقيت في الهامش طويلا ، تحاول اليوم أن ترتفع منه إلى المركز ، وهناك قوى أخرى بقيت في المركز طويلا ، تجتهد اليوم العودة إليه ، بينما القوة التي نجحت الذهاب إلى المركز لا تقبل التنازل منه بسهولة ، وهذا هو مكمن الصراع الحالي في إثيوبيا .

يوضح الصراع الحالي غياب التنمية السياسية التي لم تكن مصاحبة مع التنمية الإقتصادية ، ولهذا نجد اليوم أن المزارعين التقليديين الذين لم يكونوا جزءا من المشاريع التنموية يرفضون السياسات التنموية التي تقوم بتهميشهم ، كما أن القومية الأورومية ذات الثقل السكاني لا تقبل البقاء في الهامش ، فلن يكون بعد اليوم صحيحا في أثيوبيا ما أطلقه الدكتور حسن مكي بأن الشعب الأورمي يمثل الصين النائمة ، فقد انتهي هذا العصر ، فإنه قرر الإنتقال من الهامش إلى المركز ، كما أن الشعب الأمهري الذي يمثل الدولة العميقة ( القومية العميقة ) المتجذرة في النسيج السياسي والإداري في الدولة تحاول العودة إلى المركز ، ولكن قومية التجراي التي أوجدت اليوم الدولة العميقة الجديدة ، ليست مستعدة للتنازل عن ذلك بسهولة .

إن هذا الصراع يحمل في طياته تدافعا سياسيا قائما على الهوية الدينية والتاريخية ، وعلى المصالح السياسية المبنية على الرؤى القريبة والبعيدة ، ومن هنا ، فان هذا النوع من التدافع السياسي ليس من شأنه أن ينتهي بين عشية وضحاها ، ولكن الكوادر السياسية في هذه الدولة يستطيعون حل المشاكل بنوع من التفاهمات السياسية المبنية على التنمية السياسية التي توجه التنمية الإقتصادية .

هناك شعوب في إثيوبيا ليسوا جزءا من الصراع ، لأنها تعتبر نفسها من الرعايا ، وليست من المركز ، فيمثل الشعب الصومالي ، والشعب العفري وغيرهما من الشعوب التي لها قابلية العيش في الهامش ، لأنها ليست لها عقدة مع التاريخ ، فعقدة هذه الشعوب مع الذات ، وليست مع الحكم ، فكثيرا ما نلاحظ الصراع العفري – العيساوي ، والصراع الصومالي – الصومالي ، أن مشكلة هذه الشعوب ليست مع الحكم ، وإنما هي مع أسلوب العيش ، ولهذا لا تجد لهم شأنا في الصراعات الداخلية التي من شأنها تحديد نوعية الحكم في البلد .

قديما ، قالوا : الناس ثلاثة : قائد ومقود وضاغط ، فهكذا الناس في كل مكان ، فالشعب الأمهري قائد تاريخي ، وكذلك الشعب التجراي ، وهذا ما يفكر فيه الشعب الأورومي ويطالب بقوة ، أما الشعب الصومالي أو الشعب العفري وغيرهما من الشعوب الهامشية ، فلديهم عقدة ، إما أن يبقوا في دائرة المقود ، أو في دائرة التفكير في الإنفصال ، وهناك شعوب لا تفكر في القيادة ولكنها تعرف موقعها من الحياة وهو الدخول في دائرة الضغط ( جماعات الضغط ) ، وربما الشعب الهرري ، والأوزاغي من هؤلاء .

وليس من العقل أن ننسى دور الدين في صناعة السياسة في أثيوبيا ، فما زالت الكنيسة قوية ، وما زال المسيحيون يؤمنون بأن الدولة هبة الكنيسة ، وقد استيقظ المسجد من كبوته ، ولكنه ليست اليقظة الكاملة ، وما زال المسلمون يشعرون بالدونية والظلم .

هذه هي القراءة الأولية لما يجري في إثيوبيا ، وفي الجعبة كلام آخر ، فهذا زمن التفكير ، وليس زمن التنفيذ بدون تفكير .

شاركنا رأيك

بريدك الإلكتروني مؤمن ولن يتم اظهاره للعلن.