المركز العراقي الافريقي للدراسات الاستراتيجية
الموقع الرسمي

الأبوية السياسية في النظم السياسية الأفريقية

0

مقدمة
تتسم معظم النظم السياسية الافريقية بخصائص الأبوية السياسة من حكم شخصي وعدم الفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة مع وجود شبكة من العلاقات الإطارية التي تقوم على أسس من التبعية، بها تابع ومتبوع مع تعظيم الحكام، مع انتشار واسع للفساد وتأييد للحاكم مستند إلى أسس أثنية أو فئوية، يصحبها قمع للمعارضة وانتهاك لحقوق الإنسان.

ويظهر ذلك بوضح في نظم الحكم العسكرية أكثر من النظم الأخرى للحكم مما يمثل مخاطر على الديمقراطية وهو ما يرجع الى النزعة الأبوية نفسها وليس لطبيعة الحكم العسكري. فمعروف ان الحكم العسكري يمثل نقيضا للديمقراطية وذلك لعدة اسباب تتلخص في: –

– بنيان المؤسسة العسكرية ذاتها الذى لا يتفق مع القيم والإجراءات الديمقراطية

– تدخل العسكريين المتكرر في السياسة الذى يؤدى إلى قطع العملية الديمقراطية وعدم استقرار ثقافة الديمقراطية.

إلا أن هذه الأسباب تركز على الجوانب الملموسة للنظم العسكرية والأثار المباشرة لها على الديمقراطية وتقل عن الآثار المشتقة التي يؤثر بها الحكم العسكري ويعززها ويكون لها عظيم الأثر على العملية الديمقراطية والتي تتمثل في العوامل السياسة –الاجتماعية كالإثنية والدين والإقليمية، ويشترك مفهوم الأبوية السياسية وبعض المفاهيم الأخرى المتعلقة به ببعض الخصائص حيث نرى.

استخدم “ماكس فيبر” مفهوم الأبوية لوصف نظام من الحكم الشخصي الذي يقوم فيه الحاكم بتوزيع المناصب والمنافع على الاتباع مقابل ولائهم وتأييدهم وخدماتهم. وتشير الأبوية عند “فيبر” إلى نظام سياسي يقوم فيه المسئولون في الدولة باستخدام مناصبهم لمنفعتهم ومنفعة مؤيديهم. حيث ينظر المسئولون إلى المناصب السياسية باعتبارها إقطاعا لهم ويستخدمونها لخدمة مصالحهم الخاصة. ويعتبر مفهوم “ماكس فيبر” عن الأبوية مفهوم مثالي للأبوبة يعب وجوده حيث لا توجد دولة تعبر عن الخصائص الخمس التي حددها فيبر للدولة الأبوية في شكلها المثالي وتتمثل خصائص الأبوية عند “فيبر” في خمس خصائص هي:

•       وجود حكومة تقوم على الحكم الشخصي.

•      غياب الفصل بين الحياة العامة والحياة الخاصة للمسئولين في الدولة.

•       النظر الى المناصب السياسية كأقطعيات ووسيلة المحسوبية من جانب المسئولين في الدولة.

•       أن النظام يعمل بشكل أساسي من خلال شبكات عديدة لعلاقات التابع والمتبوع.

•       أن ممارسة السلطة العامة تستخدم لخدمة الحكام والمسئولين وتمنح المناصب بناء على ذلك.

هكذا رأى فيبر أن الأبوية السياسة يجب أن يتوافر بها هذه الخصائص الخمس معا والذي يعتبر النموذج المثالي من وجهه نظر فيبر للأبوية السياسة. وقد تظهر هذه الخصائص في بعض النظم السياسة أكثر من غيرها من النظم، وفى ظل ظروف مختلفة وهو ما أدى إلى ظهور بعض التقسيمات الفرعية من الدولة الأبوية مثل دولة المتبوعية، دولة الوقفية، ودولة الأبوية الجديدة والتي توجد فروق بينها وبين الدولة الأبوية المثالية عن ماكس فيبر نوضحها في النقاط التالية: –

أ. المتبوعية: حيث تستخدم المتبوعية لوصف نظام سياسي تقليدي في علاقات ذات طابع شخصي بين الفاعلين أي بين التابع والمتبوع.. أو هي مجموعة من الفاعلين الذين يسيطروا على أنصبة غير متساوية للثروة والمكانة والنفوذ وتقوم هذه العلاقة بينهم على “الولاء المشروط” والمنفعة المتبادلة.

وفى النظام السياسي تشير المتبوعية إلى نظام يقوم فيه “المتبوعون” بتوزيع المنافع على بعض الافراد الأدنى منهم “الأتباع” والذين يحتلون مكانه استراتيجية في مقابل تأييدهم وخدماتهم وولائهم.  إذ يقوم هؤلاء “الأتباع” بتقديم المنافع إلى من هم أعلى منهم “متبوعيهم” من أجل الحماية المستمرة لمراكزهم وما في حوزتهم من ممتلكات وثروات.

 وهو ما يعنى أن المتبوع على أحد المستويات يمكن أن يكون تابعا لأخر (هرمية التبعية)، ويمكن أن توجد هذه الرابطة على المستوى الفردي أو الجماعي.

ب. الوقفية: وتعتبر الدولة دولة وقفية أو” دولة الوقف” كما يطلق عليها وذلك عندما ينظر المسئولون في الدولة إلى المناصب السياسة على أنها ضياع موروثة (أبعدية باللفظ الدارج) تستخدم لتحقيق مصالحهم وليزيدوا بها ثروتهم الخاصة هم ومؤيديهم في ظل إطار دستوري وقانونى – رسمي ويظهر ذلك بوجه خاص في النظم شبه الديمقراطية؛ ففي تلك الحالة يوصف النظام بالوقفية.. فالوقفية “مزيج يجمع بين نمطين من السلطة فمن جهة هناك قواعد قانونية تحدد مجالات ونطاقات المناصب المختلفة وكيف يتم شغلها بالأفراد، ومن جهة أخرى فإن الولاءات الشخصية والهويات الطائفية واعتبار الأجهزة ملكا خاصا، وأخيرا تحويل المناصب إلى مورد اقتصادي مباشر أو غير مباشر. وهو ما كان متجسدا في النظام المصري السابق حيث تم وقف موارد الدولة على أصحاب المناصب العليا واعتبارها ملكا خاصا لهم يستخدمون مؤسساتها من أجل تيسير أعمالهم الخاصة ومن أجل تنمية ثرواتهم وتضخيمها على حساب الطبقة الكادحة التي لم تكن تملك أن تكسر هذه الدائرة من المحسوبيات.

 وبالمعنى السابق يطرح السؤال نفسه هل هناك فرق بين الأبوية والوقفية؟  هناك من يرى أن الفرق الأساسي بين مفهومي الوقفية والأبوية يكون في غياب سلطة الحاكم الشخصي وحتى إذا وجد حاكم في دولة وقفية فانه لا يبقى طويلا بالمقارنة بالدول الأبوية ولكن يتفق الاثنين في تعاملهم مع سلطة الدولة باعتبارها مجموعة من المناصب يمكن التنافس عليها وتوزيعها وادارتها من أجل منفعة الافراد الذين يدورنها وجماعتهم. ونختلف مع هذا الرأي في موضوع بقاء الحاكم حيث إن النموذج المصري يظهر فيه طول مدة بقاء الحاكم (28 سنة) تم وقف موارد الدولة على شخصه وعلى الأتباع والمؤيدين.

ج. الأبوية الجديدة: تظهر الأبوية الجديدة في كثير من الدول الأفريقية وتتضمن “بعض” من خصائص نموذج” ماكس فيبر” المثالي للأبوية السياسية وليس كلها حيث لا تتوافر بها جميع الخصائص التي تتوافر في نموذج ” فيبر” المثالي الذي سبق إيضاحه أو الأبوية” التقليدية ” وعلى سبيل المثال ” يظهر هذا النموذج من الأبوية الجديدة في نيجيريا في خلال فترة حكم كل من الرئيس بابانجيدا والرئيس أباتشا، حيث كانت تلك الفترات مثالا للأبوية رغم خصائص الدستور. فبوجه عام نجد أن خصائص الأبوية تتكيف وتتركز بشكل عميق في الإطار الدستوري ولكن يمكن تميزها ونتائجها بوضوح وهو ما يفسر لماذا يطلق عليها ” الأبوية الجديدة”. والتي “شأنها شأن النموذج المثالي للأبوية (فيبر) أن تكون مزيجا مركبا من مجموعة من الخصائص المميزة التي يرتبط بها مجموعة من التعاملات الهرمية النوعية وبسط الحماية والمحسوبية للتابعين وهو ما يجعل الافعال فاسدة من ناحية القواعد الشكلية للأطر المؤسسية الديمقراطية.

هل هناك علاقة بين الأبوية والاثنية؟

إن الأبوية إذا نظرنا إليها خصوصا من منظور المتبوعية تعد ذات أهمية لسببين:

أولهما: – أنه يمكن أن تعمل بشكل ملائم على المستويين الفردي والجماعي في آن واحد على السواء

ثانيهما: – أنها تقترن بسهولة بالاثنية بشكل يجعل كل منهما يعزز بعضهما البعض (الأبوية والاثنية). فالمتبوعية والإثنية نادرا ما يعمل كل منهما بمفرده، حيث يمكن التداخل بينهما في عضوية كل منهما.  إذ يرتبط بعض الافراد بقوة بالبنيان الإثني الفرعي بينما يعمل أخرون كحلقات ربط بين هذا البنيان الفرعي والمستويات العليا من هرم المتبوعية. أما بالنسبة للقومية الإثنية فهي ظاهرة تنشأ نتيجة علاقات متبادلة بين الجماعات الإثنية المختلفة في إطار مجتمع سياسي يضم جماعات متباينة. حيث من السهل “تسيس” الإثنية في دول كثيرة متعددة الإثنيات وذلك نتيجة لتصارع مصالح النخب ذات القاعدة الإثنية الكبيرة فى غمار صراعها على السلطة والتنافس على الموارد وقبل كل شيء سلطة الدولة.

إن ما يجعل القومية الإثنية عاملا خطيرا هو طبيعتها، بمعنى أنها تتضمن عادة متنافسين غير متساويين في القوى بعضهم مسيطر والأخر خاضع، ونظرا لأنها تعتبر استراتيجية صفرية، يميل الصراع الناتج عنها إلى الشراسة مع وجود خطر دائم باندلاع العنف. حيث تدخل النخبة السياسية والجماعات المرتبطة بها في صراع على الموارد والسلطة والتنافس على الموارد النادرة سواء كان ذلك في ظل نظام عسكري او غيره من النظم، الا ان التنافس يكون غير عادل عندما يكون في ظل نظام عسكري وذلك لميل ميزان القوى لصالح جماعة معينة. الأمر الذي يمكن أن يؤدى إلى عدم الاستقرار السياسي في الدولة، وهو ما يجعل من الإثنية أكثر خطورة من الأبوية خصوصا في ظل وجود نظم عسكرية تدعمها.

إن السياسات الإثنية مقارنة بالأبوية السياسية تؤدى إلى إضعاف الديموقراطية وعملية التحول الديمقراطي بصورة كبيرة فمن الصعب أن تتحقق الديمقراطية في المجتمعات المنقسمة اثنيا وذلك لأن الأثنية تصبح أساس المشاركة السياسية، حيث تنقسم الهوية الاثنية لتقدم اساس واضح لمن سيدخلون ومن سيستبعدون، وهو ما يخلق العداوات والعقبات في سبيل تحقيق عملية التحول الديمقراطي سواء في أولها أو بعد اجتياز بدايتها وفى مراحل تالية. حتى في النظم العسكرية ستظهر الأثنية بشكل مجسد لأنه حتى العسكريين لن يستطيعوا أن يكونوا حياديين أو بمعزل عن مشكلة الإثنية.

وإذا ما طبقنا ما سبق على أي من الدول الأفريقية وعلى سبيل المثال النموذج النيجيري ، والذي تميز  بالعديد من فترات الحكم العسكري التي مرت به نرى أن الحكم الأبوي ينشأ في وضع تنقص الحاكم فيه الشرعية الدستورية  أو الكاريزما وإنما يظهر الحافز المادي والتحكم الشخصي الذى يكون هو أساس حكمة  لذلك تتناسب  الأبوية بشكل أكبر مع النظم العسكرية أكثر من النظم الأخرى،  اذ تظهر بوضوح من خلالها  لما تتميز به  النظم العسكرية من اعتمادها  على الخوف والولاء الشخصي وهو ما يظهر في كثير من الدول الافريقية ذات الحكم التسلطي والتي يحكمها ديكتاتورية عسكرية أو نظم الحزب الواحد أو الحزب الأوحد في ظل نظام متعدد حزبيا لكن هناك حزب واحد و الذي يسيطر وفي الغالب يكون الحزب الذي يدعمه الحاكم.

 فالحكم الأبوي يتطلب الطاعة والتعظيم له بغير حدود فالحاكم يحيط نفسه باتباعه الذين يدينون له بالولاء لإنعامه عليهم بالمناصب والعطايا كما أن أى نشاط سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي في مثل تلك الأنظمة، يجب أن يكون لتعزيز سلطة الحاكم ومركزه الاقتصادي. وتعتبر نيجيريا نموذجا للنظام الأبوي إلى حد بعيد، فالجيش النيجيري خضع للتسيس منذ فترة مبكرة منذ أصبحت الدولة مستقلة وظهرت فيه الإثنية والفئوية بشكل كبير حيث في فترة الستينيات طالبت النخبة الشمالية بأن يكون لها 50% من سلك الضباط وذلك بحجة كبر الإقليم الشمالي وبالتالي فانه لكي يكون المرء ضابطا كان يتوقف ذلك إلى حد كبير على هويته الاثنية. وحتى بعد أن تم العمل بنظام الحصص في دخول الجيش بدلا من أن يؤدى إلى إزالة الشعور بسيطرة الإثنية زاد من الأمر وذلك لأن بعض الجماعات الاثنية ذات ولايات أكثر من غيرها مما يعنى أن يكون لها العدد الاكبر من الضباط بالإضافة إلى أن عددا قليلا من الضباط الجنوبين قد وصل الى مرتبة عليا في الجيش وهو ما يعنى في نهاية الأمر سيطرة الشمال على الجيش وبالتبعية على الحكومة العسكرية. 

إلا أن السيطرة العسكرية في ظل الحكم العسكري تكون بشكل واضح أكثر مما هي في ظل الحكم المدني وذلك لان الجيش رغم خضوعه للسيطرة الاثنية يمكنه أن يستخدم القوة الغاشمة لضمان الانقياد والطاعة من جانب كل الفئات في حين أنه في ظل الحكم المدني يتبع وسائل أخرى مثل الدخول في تحالفات مع الجماعات الأخرى. ويعتبر حكم بابانجيدا واباتشا هو مثال للأبوية السياسة التقليدية حيث أستخدم الحاكم كل شيء من أجل مصلحتهما ومصلحة حاشيتهما والسيطرة على الأجهزة الحيوية في الدولة مثل جهاز الأمن والنظام الاقتصادي والسياسي. فكان حكمهما مليء بالمحسوبية والفساد والاستعانة بالمقربون والنخبة.

خاتمة:

خلاصة ما سبق أنه وإن كان هناك تقارب في الخصائص بين الأبوية السياسية أو الدولة الأبوية وبعض التعريفات الأخرى مثل دولة الوقف أو دولة المتبوعية، إلا أن الأبوية السياسية تعتبر الأعم والأشمل. وأن النظم العسكرية هي أكثر النظم التي تتجسد بها الأبوية السياسية وذلك لما لهذه النظم من خصائص. إلا إن ما يمثل الخطورة هنا أكثر من الأبوية السياسية هو الأثنية والتي تزداد خطورتها في الأنظمة العسكرية أكثر منها في الأنظمة المدنية أو شبه الديمقراطية لتوافر عنصر القوة العسكرية المتمثل في الجيش الذي يدعمها.

شاركنا رأيك

بريدك الإلكتروني مؤمن ولن يتم اظهاره للعلن.