الازمة السياسية في جمهورية مالي ماذا بعد فشل وساطة منظمة الايكواس
منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية في باماكو ضد الرئيس المالي ابراهيم بوبكر كيتا مطالبة اياه بالتنحي عن السلطة لاتهامه بتواطؤ بتزوير الانتخابات الرئاسية الاخيرة في مارس / اذار 2020 واعلان فوزه فيها بالرغم من مقاطعة المعارضة لها، اضافة الى الفساد في المؤسسات الحكومية، وفشل حكومته في الدورة السابقة عن تقديم برامج عملية لتحسين الوضع الاقتصادي الذي تفاقم بعد اجراءات الحظر التي تسبب بها فايروس كوفيد ــ 19 ـــ اضافة الى فشله في وقف الاعمال الارهابية التي تنفذها الجماعات الارهابية ضد المواطنين والمؤسسات الحكومية والتي امتدت من شمال البلاد الى وسطها، منذ عام 2011 وتسببت في وقوع انقلاب عام 2012 بعد سيطرة هذه الجماعات الارهابية على اقليم الشمال وتصدي القوات الفرنسية اليها بعد فشل القوات المسلحة المالية في استعادة الاقليم منها لضعف التسليح.
سارعت منظمة الايكواس باعتبارها المنظمة الاقليمية الوحيدة التي تمثل دول الغرب الافريقي لمبادرة الوساطة بين اطراف الازمة، وقد كان لهذه المنظمة الدور الاساسي والرئيسي في معالجة العديد من الازمات التي تعرضت اليها دول المنظمة، وكانت تجاربها ناجحة في العديد من دولها، مثل دورها في انهاء الانقلاب العسكري عام 2015 في بوركينا فاسو الذي قاده رئيس الاستخبارات السابق الجنرال غيلبرت دينديري والحرس الرئاسي واعادة الحكم المدني اليها، وكذلك دورها في معالجة ازمة الانتخابات في غامبيا،
تضم لجنة الوساطة رؤساء دول كل من السنغال، غانا، وساحل العاج، والنيجر ، ونيجيريا. والتي وصلت الى العاصمة المالية باماكو يوم الخميس 23 يوليو/ تموز 2020 وعقدت مجموعة من اللقاءات مع الرئيس المالي وقيادة المتظاهرين الذين شكلوا تحالفا ضم سياسيين مناهضين للرئيس ومنظمات مجتمع مدني بقيادة الشيخ محمود ديكو واطلق عليه تحالف (M5.RFP) الذي يضم في عضويته:
1- الجمعيات والمنظمات الداعمة للشيخ محمود ديكو ابرز اقطاب التحالف وقائده.
2- حركة استعادة الأمل وتضم 20 منظمة بقيادة وزير الثقافة السابق الفنان السينمائي، الشيخ عمرو سيوسكو
3- جبهة حماية الديمقراطية التي يراسها تشوجويل كوكالا ميجا ( وزير سابق ) تضم مرشحي رئاسة سابقين وسياسيين ووزراء سابقين ومسؤولين حكوميين .
4- أنصار سوميلا سيسي: رئيس حزب التحالف من أجل الجمهورية منافس الرئيس كيتا في الانتخابات والمختطف حاليا.
5- أنصار الشريف الموريتاني، محمدو ولد الشيخ حماه الله، أحد أهم أقطاب التأثير الروحي والسياسي في مالي.
وفي ختام اللقاءات والمشاورات مع اطراف الازمة اعلنت اللجنة يوم الاحد 26/ يوليو ــ تموز 2020 توصياتها والتي تضمنت فحص المحكمة الدستورية في مالي ملف الانتخابات باعتباره ابرز اسباب الازمة، والدعوة الى تشكيل حكومة ائتلافية من طرفي الازمة، وقد وافق الرئيس ابراهيم كيتا على هذه التوصيات لاسيما بعد ان تم التأكيد عليها في توصيات قمة “الإيكواس” التي انعقدت الاثنين 27 يوليو / تموز 2020 لبحث خارطة طريق انهاء الازمة في مالي. وهي التوصيات التي تضمنت ايضا تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، وإقالة 31 نائبا برلمانيا عن الحزب الحاكم ( من كتلة الاغلبية بعد اتهام الحكومة بتزوير الانتخابات في دائرتهم الانتخابية) الأخيرة، بمن فيهم رئيس البرلمان، وقد جاءت هذه التوصيات بلغة الالزام لأطراف الازمة اذ انها تضمن تهديدا عن الإيكواس، بصدور عقوبات بحق من يعارضون خطتها لحل الأزمة المالية، في إشارة إلى قادة حراك 5 يونيو، المطالب باستقالة الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا من منصبه.
اذ اعلن الرئيس كيتا عن عزل رئيسة المحكمة، اضافة الى صدور مرسوم جمهوري يقضي بتشكيل حكومة مصغرة من ستة وزراء الدفاع، والعدل، والأمن، والإدارة الإقليمية، والشؤون الخارجية، والاقتصاد والمالية”. مهمتها التفاوض مع المعارضة لتشكيل حكومة وحدة وطنية.
الا ان المعارضة (M5.RFP) رفضت هذه التوصيات معتبرة ان وساطة الايكواس فاشلة لأنها لم تنص على تنحي الرئيس عن السلطة بل ان المعارضة ذهبت الى ابعد من هذا وذلك عندما صرح المتحدث الرسمي باسم التحالف (نوهوم توجو) المتحدث الرسمي باسم التحالف قائلا بان “إيكواس أتت لدعم كيتا وتهديد تحالف المعارضة (M5.RFP). كل ما يريدونه هو (فرض) رؤيتهم ورؤية كيتا ولكن ليس رؤيتنا”. مضيفا أن الاحتجاجات ستستمر لحين استقالة الرئيس.
يأتي هذا التصريح في وقت تتصاعد فيه الاحداث باتجاه العنف والمواجهة مع قوات الامن في خطوة ربما يحاول الرئيس كيتا العمل على فض الاحتجاجات بالقوة، لاسيما بعد القاءه للكرة في ملعب المعارضة واتهامه لها بانها تقف وراء استمرار الاحتجاجات، متهما اياها بمحاولة تسليم البلاد الى ( ادعياء الدين ) على حد تعبيره. وهذه الاتهامات ربما يحاول الرئيس كيتا من خلالها ايصال رسالة الى الدائرة الاقليمية والدولية بان جمهورية مالي تتعرض الى محاولة الاختطاف من قبل الجماعات الاسلامية، وان تجربة عام 2011 في شمال البلاد ربما يراد لها ان تتكرر في وسط البلاد وجنوبها، عندما سيطر الطوارق على اقليم الشمال، الا ان عدم قدرتهم على السيطرة على الاقليم، وانسحاب القوات الامنية الحكومية منه بعد تطبيق قرارات نزع السلاح من الاقليم جعلت من الاقليم منطقة امنة للجماعات الارهابية تمكنت من انتزاعها والسيطرة عليها، واستهداف القوات الدولية المتواجدة فيها.
ايضا ربما يحاول الرئيس كيتا القيام بخطوة سريعة وخاطفة لإنهاء هذه الاحتجاجات والقضاء عليها وعدم منحها مزيدا من الوقت للحصول على الدعم الدولي الذي ربما سيزيد الازمة تعقيدا، وتستدعي تقديم تنازلات اكثر من كلا اطراف الازمة.
بل ان استمرار هذه الاحتجاجات، واتساع جغرافيتها على الاراضي المالية ربما سيحفز اقليم الشمال الى استغلال الفرصة والعودة الى احتجاجات 2011 عندما انتفض الاقليم واعلنت بعض قياداته انفصال الاقليم عن البلاد، وهذه الخطوة في الوقت الذي تكون فيه لصالح الرئيس كيتا الا انها ربما ستمهد الطريق الى تدخل دولي ( فرنسي ) يتخلى فيه عن دعم الرئيس كيتا مقابل صفقة مع المعارضة تضمن المحافظة على المصالح الفرنسية في البلاد،
وايضا ربما يحاول الرئيس كيتا من خلال هذا الاعلان سحب اقدام القوات الفرنسية للدخول الى ساحة المواجهة لصالحه باعتبار ان فرنسا ونظرا لتاريخها الاستعماري في اقليم غرب افريقيا تعد صاحبت النفوذ الاكبر فيه، وايضا باعتباره هو الرئيس المنتخب وان المعارضة تحاول الانقلاب على الشرعية.
ولكن دخول القوات الفرنسية وربما الغربية ايضا لن يكون بهذه السهولة، اذ ان سياق تعامل القوات الاستعمارية مع الاحتجاجات المحلية في الدول الافريقية كثيرا ما تكون فيه الاولوية الى المصالح الغربية على حساب مصالح الحكومات المحلية، ففي الوقت الذي تدخل فيه سلاح الجو الفرنسي عام 2011 لحسم النزاع في ساحل العاج بين الرئيس المنتخب (الحسن وتارا). والرئيس المنتهية ولايته (لوران غباغبو) بعد رفضه تسليم السلطة الى وتارا ، اذ تمكنت القوات الفرنسية من انتزاع السلطة لصالح الرئيس المنتخب وايداع غباغبو في السجن. وكذلك الحال في ازمة غامبيا عندما اعطت الامم المتحدة وبدعم فرنسي الضوء الاخضر لقوات سنغالية من الدخول الى غامبيا تحت لواء منظمة الايكواس لإجبار الرئيس المنتهية ولايته (يحيى جامع) على الانسحاب وتسليم السلطة الى الرئيس المنتخب ( أداما بارو) الذي تم تنصيبه في سفارة بلاده في السنغال في اولى مراسيم استلام السلطة لدولة في العالم.
والسناريو الذي يمكن ان يكون خارج حسابات كلا طرفي الازمة هو ان يتحرك الجيش باتجاه سحب السلطة والاعلان عن الغاء نتائج الانتخابات والدعوة الى انتخابات مبكرة تحت مظلة حكومة انتقالية مدعومة اقليما، وبالرغم من ان هذا الخيار مخالف لمبادئ منظمة الايكواس الا انه يمكن غض الطرف عنه باعتباره يمثل افضل الخيارات التي تنحصر بين التحذيرات التي اطلقها الرئيس ابراهيم كيتا والتي اتهم فيها المعارضة على انها تريد تسليم البلاد الى رجال دين متشددين، وبين القرار المحتمل الذي يمكن ان يتخذه الرئيس ابراهيم كيتا بفض الاحتجاجات بالقوة، وهو القرار الذي يمكن ان تدخل فيه البلاد في نفق الحرب الاهلية والذي يمكن ان تكون له تداعيات على اقليم الشمال والدول الاقليمية المجاورة.
ولكن ربما في اللحظات الاخيرة ستدخل اطراف بعيدة عن ساحة الازمة الحالية لتقلب الطاولة في سيناريو ربما ينتهي بعقد صفقة بين الحكومة والمعارضة يتم من خلالها تنازل المعارضة عن مطلب انسحاب الرئيس كيتا من السلطة في قبال الحصول على مكاسب سياسية ربما سيتم التعامل معها على انها ضمانات لعدم عودة حزب كيتا الى السلطة في الانتخابات القادمة. خصوصا وان الشيخ محمود كيتا قد صرح في بداية الازمة بعد زيارة رئيس الوزراء بوبو سيسيه له في بيته خلال الايام الاولى للازمة للحصول على مساعدته في الأزمة “إن الأزمة السياسية في البلاد يمكن حلها دون أن يتنحى الرئيس ، ويقدم حلًا أكثر اعتدالًا من زعماء المعارضة الآخرين”.