
الانقلابات العسكرية في جمهورية مالي وتحديات بناء الدولة
رغم استقلال جمهورية مالي في ستينات القرن الماضي، إلا انها مازالت تعاني من تفاقم الازمات واحدة تلو الاخرى وعلى رأسها أزمة بناء الدولة، وقد تفاقمت هذه الازمة في ظل جملة من التحديات التي كانت ومازالت مستمرة كالأزمات الاقتصادية، والهوية الوطنية، والفساد في المؤسسات الحكومية إضافة الى ظاهرة الانقلابات العسكرية، وازمة اقليم الشمال ومطالبته بالانفصال، فضلا عن عسكرة الشمال المالي من خلال فرض الأحكام العرفية، والحكم العسكري فيه، واتهام الحكومة بتحويل المساعدات المالية الممنوحة لتنمية الاقليم الى تطوير المؤسسات العسكرية في الاقليم.
وقد كشفت انتفاضات الطوارق الاربعة (1963 ، 1990 و 2006 و 2012) عن حالة من التوتر التي لا يمكن تجاوزها اذ انها باتت تهدد بانفصال اقليم الشمال، اذ كان مطلب الانفصال من ابرز المطالب التي ظهرت في انتفاضة 2012 قبل ان يتم مصادرتها من قبل الجماعات الاسلامية وتراجع بعض قيادات الطوارق عن هذا المطلب بعد المكاسب التي منحتها الحكومة لهذه القيادات.
لقد كان لبعض هذه الانتفاضات الاثر الكبير في حصول الانقلابات العسكرية وخصوصا انتفاضة 2012 حيث سيطر عدد من الجنود النقيب أمادو سانوغو على القصر الجمهوري في باماكو بعد اتهام قادة الانقلاب الرئيس توري بانه يتحمل كامل المسؤولية عن الخسائر التي يتعرض اليها الجيش المالي في اقليم الشمال بسبب عدم تامين الاسلحة والاعتدة اللازمة لمواجهة الجماعات الارهابية. خصوصا وان الاوضاع في الشمال باتت تهدد سلامة وحدة التراب المالي بعد اعلان السيد بلال أق الشريف الرئيس العام للحركة الوطنية لتحرير آزواد من مدينة جاوا كبرى مدن الإقليم عن انفصال آزواد واستقلاله عن دولة مالي.
ان تاريخ جمهورية مالي مع الانقلابات العسكرية يشكل احد ملامح انتقال السلطة في القارة الافريقية، اذ باتت هذه القارة تعرف على انها قارة الانقلابات العسكرية. ففي جمهورية مالي وخلال العقود الستة لتأسيسها حدث فيها اكثر من انقلاب عسكري وكما يلي:
الانقلاب العسكري الاول:
1- في نوفمبر/ تشرين الثاني 1968 شكل مجموعة من الضباط من ذوي الرتب الصغيرة اللجنة العسكرية للتحرر الوطني تتكون من 14 عضوًا يرأسها الملازم موسي واعلنوا عن قيادتهم لانقلاب عسكري في نوفمبر/ تشرين الثاني 1968، وبعد نجاح هذا الانقلاب تم تعيين قائد الانقلاب موسى تراوري رئيسًا للبلاد، وقد اتخذ الرئيس الجديد جملة من القرارات كان من ابرزها ألغاء دستور البلاد، واعتقال الرئيس موديبو كيتا وايداعه السجن والذي بقي فيه حتى وفاته في مايو/ آيار 1977، وحظر تكوين الأحزاب السياسية، وحاول الحصول على الدعم الفرنسي من خلال عمله على تحسين علاقات بلاده معها.
2- في سبتمبر/ ايلول 1969 تم اكتشاف مؤامرة لانقلاب يقوده رئيس الوزراء انذاك يسعى هذا الانقلاب الى اطلاق سراح الرئيس موديبو كيتا الذي اودعه الرئيس تراوري في السجن بعد انقلابه العسكري واعادته الى السلطة، وبعد اكتشاف الرئيس تراوري لهذه المحاولة اتخذ جملة من القرارات الاستباقية لإفشاله كان من ابرزها اعتقال كلا من تيكورو باگايوكو وكيسيما دوكارا، وزيري الدفاع والأمن، بتهمة التخطيط للإنقلاب، واصدار قرار بخلع وقبض عليه عام 1971، ثم توفي في السجن عام 1973، اضافة الى ممارسة سياسة القمع تجاه المعارضة السياسية بين موظفي الخدمة المدنية والطلاب المؤيدين للنظام السابق، وتبني الدكتاتورية منظام للحكم من خلال شخصنة السلطة وحصرها بيده.
3- الانقلاب العسكري عام 1980: مع انتشار الفساد وسوء الإدارة، والتدهور الاقتصادي، وعجز النظام عن حل المشاكل الحدودية مع بوركينافاسو ازداد السخط الشعبي، واندلعت مظاهرات طلابية في نوفمبر/ تشرين الاول 1979 ومارس/ اذار 1980. استمرت هذه التظاهرات لتكون سببا في محاولة انقلابية في ديسمبر/ كانون الاول 1980
4- الانقلاب العسكري عام 1981: بعد فشل الانقلابات السابقة ضد الرئيس تراوري، خصوصا بعد تمكن اجهزته الاستخباراتية من متابعة الاتصالات التي يقوم بها معارضيه او من تدور حوله الشكوك من اتباعه، تم الاعداد لانقلاب عسكري يقوم على اساس اغتيال الرئيس تراوري، وفعلا تم في مارس/ اذار 1981 تعرض الرئيس تراوري لمحاولة اغتيال الا انا كانت فاشلة.
5- الانقلاب العسكري عام 1991: بعد فشل الانقلابات العسكرية المتكررة ضد الرئيس تراوري، وفشل محاولة اغتياله، تصدى العقيد أمادو توماني توري الى قيادة مجموعة من الضباط والجنود لقيادة انقلاب عسكري جديد في مارس 1991 مستفيدا من جو السخط الشعبي العام ضد الرئيس تراوري وسياسته التقشف التي تبناها، وقد نجح العقيد ورفاقه في هذا الانقلاب وتمت الإطاحة بتراوري ليتولى العقيد أمادو السلطة بنفسه وأعلن إلغاء الدستور وحل الحكومة والبرلمان والحزب الحاكم. وكون المجلس العسكري للتجمع الوطني، وشكل لجنة للإشراف على إعادة الديمقراطية والحكم المدني للبلاد، وأعلن عن إجراء الانتخابات المحلية والرئاسية في نهاية العام، وانسحاب الجيش من الحياة السياسية في يناير/ كانون الثاني 1992، ووعد توري بعقد مؤتمر وطني لتنسيق الآراء والاتجاهات المختلفة بخصوص الدستور والانتخابات والإصلاحات السياسية في البلاد، وأعلن عزمه على تطهير الحياة السياسية من سلبيات نظام تراوري السابق، فقبض على العديد من الوزراء والمسئولين في إدارة تراوري بتهمة الفساد والإثراء غير المشروعين وأصدر عفوًا عامًا عن المسجونين السياسيين في عهد تراوري،
6- الانقلاب العسكري عام 2012: ونتيجة لتداعيات سيطرة التنظيمات الارهابية على اقليم الشمال ونقص التجهيزات العسكرية في صفوف الجيش قاد مجموعة من العسكريين الماليين في 21 مارس 2012 انقلابا عسكريا تمكنوا خلاله من السيطرة على السلطة، والاستيلاء على القصر الرئاسي في العاصمة باماكوا، هذا الانقلاب الذي قاده النقيب أمادو سانوغو والذي كان نتيجة لجملة من الاسباب ابرزها:
• ثورة الطوارق في اقليم الشمال وسيطرتهم عليه والتي سرعان ما اجتذب الفراغ الامني والحكومي في الاقليم مجموعة من العائدين من ليبيا بعد سقوط نظام القذافي وتنظيم القاعدة في المغرب العربي ليسيطروا على الاقليم وينتزعوه من الطوارق.
• عدم استجابة الحكومة لمطالب الجيش بتسليح رفاقهم في اقليم الشمال والذين يعانون هزائم متكررة في حربهم ضد الطوارق وأنشطة مجموعات إسلامية مسلحة ورجال مدججون بالسلاح قاتلوا لحساب نظام معمر القذافي.
وبالرغم من التعهدات التي قدمها قائد الانقلاب للدول الاقليمية والدولية، الا انه فشل من الحصول على الدعم الاقليمي والدولي لاسيما بعد قرار منظمة الوحدة الافريقية بعد الاعتراف باي سلطة تاتي عن طريق الانقلابات العسكرية في القارة الافريقية، لذا تم الاعداد لاجراء انتخابات في 11 اغسطس/ اب 2013 تم خلالها فوز ابراهيم بوبكر كيتا واعلانه رئيسا لجمهورية مالي، وفي 4 سبتمبر/ ايلول من نفس العام تم اداءه لليمين الدستورية ليتسلم مقاليد السلطة ويغلق الباب على اخر انقلاب عسكري تتعرض له جمهورية مالي.
ومن المفارقات التي يمكن الاشارة اليها ان الظروف الحالية التي تمر بها جمهورية مالية لاتختلف كثيرا عن الظروف التي اعقبت الانقلابات العسكرية السابقة فهل يا ترى ان الامور تسير بذات الاتجاه لنستمع في الايام القليلة القادمة الى اخبار وقوع انقلاب عسكري في جمهورية مالي خصوصا مع تمسك الرئيس ابراهيم بوبكر كيتا بالسلطة ورفضه التخلي عنها، وهو التمسك الذي يمكن ان نجد له دعما اقليما من لجنة التفاوض لمنظمة الايكواس الاقليمية، من جهة اخرى عدم ظهور أي ملامح لدعم اقليمي او دولي للحراك الشعبي المالي الذي يقوده الشيخ محمد ديكو ـــ باستثناء زيارة السفيرين السعودي والقطري ـــــ . ام ان الحراك الشعبي المالي سوف يسير باتجاه التصعيد خصوصا بعد سقوط الضحايا واعلان الشيخ محمود استعداده للموت مقابل ان يخون الحراك الشعبي؟ اسئلة ننتظر الايام القادمة للاجابة عنها.