التونسيون إذ يعاودون اكتشاف أفريقيا
بقلم: رشيد خشانة
لم يُطلق على تونس اسمُها الحالي سوى بعد استقلالها عن الدولة المُوحدية (مركزها في مراكش) في 1236، في ظل الحكام الحفصيين الذين أسّسوا دولة مستقلة. قبل ذلك، كان الجغرافيون والمؤرخون يُطلقون عليها اسم «أفريقيا». وعلى رغم أن التونسيين منحوا اسم بلدهم للقارة السمراء، فإن أنظارهم اتجهت إلى أوروبا طيلة نصف قرن، تاركين خلفهم أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى.
إذا استثنينا فترة الاستقلال (1956) وبناء الدولة، لم تكن تونس في حاجة إلى ديبلوماسيتها بقدر ما تحتاجها اليوم، لمعاضدتها في الخروج من المضيق الذي تعبُره. ولتحقيق هذا الهدف لا بُد للديبلوماسية، باعتبارها آلية تنفيذ للسياسة الخارجية للدولة، من خطة واضحة تكون مُقتبسة من الأجندة الوطنية، وانعكاساً لها.
فرضت التغييرات الإقليمية الأخيرة، وفي مقدمها الأزمة التي تعصف بالاتحاد الأوروبي وتعطُل مسار التكامل المغاربي، مُعاودة النظر في طبيعة علاقات تونس مع شركائها الإقليميين، من أجل وضع خيارات جديدة في إطار خريطة طريق، تتضمن أولويات البلد في الفترة المقبلة. ويمكن القول إن الانعطاف المُرتقب في الديبلوماسية التونسية مهدت له الإصلاحات، التي أعادت لتلك الديبلوماسية ألقها وحرفيتها ومكانتها الإقليمية والدولية، خلال السنتين الأخيرتين، بعد محو آثار مرحلة الهواية والتخبُط على أيام حُكم «الترويكا»، التي زعزعت الصورة المألوفة عن رصانة الديبلوماسية التونسية.
المجال المغاربي مُقفل
يتركز الانعطاف المُرتقب على منح الأولوية مستقبلاً للعلاقات مع القارة الأفريقية، خصوصاً في المجال الاقتصادي، بعدما أبصرت الشراكة مع الاتحاد الأوروبي اختلالاً في التوازن ما فتئ يتعمق، بفعل تعطل الإنتاج المحلي وتعثر الاستثمار. أما المجال المغاربي فما زال مُقفلاً تقريباً في وجه فرص التعاون والتكامل الإقليمي الصناعي والتجاري. من هذه الزاوية، تبرُز أفريقيا مجالاً بكراً وساحة مفتوحة أمام الشركات التونسية وخبراتها الفنية، مثلما دللت على ذلك التجربة المغربية، التي حازت قصب السبق في اكتشاف خصوبة أفريقيا جنوب الصحراء. وكسب المغاربة الكثير بفضل ذاك السبق. وفي هذا الإطار سعى رؤساء البعثات الديبلوماسية التونسية، في اجتماعهم السنوي الأخير، إلى رسم خريطة طريق للسنوات المقبلة، انطلاقاً من تشخيص الواقع الراهن.
كانت تونس من أوائل البلدان التي اهتمت بالمجال المُمتد جنوب الصحراء في ستينات القرن الماضي، إذ قام الرئيس الحبيب بورقيبة بجولة على ثمانية بلدان في غرب أفريقيا استمرت خمسة أسابيع. غير أن ذلك الاهتمام لم يلبث أن خفت في الفترات اللاحقة، إذ أولت تونس الاهتمام الأكبر لأجندة الشراكة مع الاتحاد الأوروبي (تم التوصل إلى اتفاق شراكة بين تونس والاتحاد في 1995، وكان الأول في نوعه مع بلدان جنوب المتوسط). مع ذلك كانت عناصر التاريخ والجغرافيا والثقافة تُغري بالاتجاه جنوباً، مع الإبقاء في الوقت نفسه على علاقات متميزة مع الاتحاد الأوروبي. وعلى رغم أن التونسيين أهدروا وقتاً طويلاً وثميناً بعد الثورة (2011)، فإن التدارك مُمكن اليوم إذا حددوا أهدافهم بوضوح، وأعدوا العُدة اللازمة لتحقيقها. وهناك اتفاقٌ لدى الخبراء على وجود فرص تجارية مُتاحة في بلدان أفريقية ناهضة تُحقق حالياً نسب نمو عالية.
اللافتُ للنظر أن تلك البلدان الأفريقية لم تعُد عالة على المساعدات الغربية، وإنما باتت اليوم دولاً صاعدة، بل يمكن القول إن البلدان الأفريقية هي التي «تُساعد» البلدان الغربية اليوم وليس العكس، إذ إن التحويلات المالية من أفريقيا إلى الخارج وصلت إلى 60 بليون دولار، بينما لم يتجاوز حجم المعونة الدولية المقدمة للتنمية في القارة الأفريقية 50 بليون دولار.
وكشف تقرير أصدرته مؤخراً مجموعة «Group Consulting Boston» الأميركية أن لدى الدول الأفريقية ميزة لا توجد لدى سواها، وهي أنها ستُشكل سوقاً فسيحة في المستقبل، إذ سيبلغ عدد سكانها 1.1 بليون مستهلك بحلول السنة 2020، مع رغبة كبيرة في الاستهلاك والإنفاق، خصوصاً من أبناء الطبقة الوسطى التي يُراوح دخلها الشهري بين 50 دولاراً و7000 دولار. ويُعتبر هذا التصنيف أكثر صرامة من معايير البنك الأفريقي للتنمية الذي يُصنِفُ كل من يتجاوز دخلُهُ اليومي دولارين في خانة الطبقة المتوسطة.
محاولات فردية
هناك مداخل متعددة لوضع قدم راسخة في المجال الأفريقي جنوب الصحراء، ودللت محاولات فردية لرجال أعمال تونسيين على أن المؤسسات المحلية ومراكز الدراسات ومكاتب الاستشارات الهندسية والمالية والقانونية وسواها، يمكن أن تنافس كبريات الشركات الغربية وتتفوق عليها أحياناً. ولذا ينبغي أن تبادر الشركات الخاصة إلى المشاركة في طلبات العروض والمناقصات في البلدان الأفريقية.
كما أن «الخطوط التونسية» ضاعفت رحلاتها نحو العواصم الأفريقية، على رغم الصعوبات التي تمرُ فيها. ولديها حالياً خمس ممثليات، لكن هذا العدد غير كاف بالقياس إلى الدور المحوري للنقل في تعزيز المبادلات التجارية مع البلدان الأفريقية. وعلى سبيل المثل حققت «الخطوط المغربية» مكاسب كثيرة على صعيد إقامة شبكة خطوط جوية في أفريقيا تخدم استراتيجيا التصدير.
في هذا السياق يُشكل ضعف شبكة السفارات التونسية في أفريقيا عقبة حقيقية أمام تعزيز حضور البلد في القارة، إذ لا يتجاوز عددها في البلدان الواقعة جنوب الساحل والصحراء ثماني سفارات (افتُتحت مؤخراً سفارتان جديدتان). كما أن ضآلة الإمكانات المتاحة، تجعل حركة الديبلوماسية التونسية مُقيدة وتأثيرها محدوداً.
ومن المداخل المهمة أيضاً الانضمام إلى مجموعة «كوميسا»، التي باتت تونس عضواً فيها خلال دورتها الأخيرة، وهي مجموعة تتألف من 19 بلداً عضواً (480 مليون ساكن)، مع نسبة نمو تُقدَرُ بـ6 في المئة، علماً أن مصر على سبيل المثل ضاعفت نسق التصدير أربعين مرة في أعقاب انضمامها إلى «كوميسا». وحصلت تونس أيضاً على مقعد عضو مراقب في «المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» المعروفة بـCEDEAO، وهي خطوة غير بسيطة. هذا بالإضافة إلى الإمكانات الزراعية الضخمة في القارة، والتي يمكن تونس بخبرة مؤسساتها العمومية والخاصة في هذا القطاع، أن تُقدم الكثير للبلدان الأفريقية وتكسب منها أيضاً الكثير.
أما على الصعيد المؤسسي فيُلاحظ أن هناك فرصاً لتعزيز حضور تونس في أفريقيا، إذ يكفي إلقاء نظرة على أجندة الاتحاد الأفريقي خلال الفترة المقبلة لإدراك أهمية تلك الفرص، ومنها الاجتماع التشاوري حول التدفقات المالية غير الشرعية في أفريقيا، المقرر لشهر تشرين الأول (أكتوبر) المقبل، واجتماع لجنة المديرين العامين للإحصاء المقرر لشهر تشرين الثاني (نوفمبر)، واجتماع ثالث حول الحوكمة الرشيدة في أفريقيا مقررٌ لشهر تشرين الثاني، واجتماع رابع حول منطقة التبادل الحر القارية هذا الشهر.
وستتعين على تونس أيضاً متابعة خطوات تركيز مقري الاتحاد الأفريقي للإحصاء والمنظمة الأفريقية للملكية الفكرية في تونس. والطريق إلى تركيز هاتين المنظمتين ليس هيناً، فهناك حالياً منظمتان متخصصتان في الملكية الفكرية الأولى للبلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية ومقرها في الكاميرون، والثانية للبلدان الناطقة بالإنكليزية ومقرها في زامبيا.
من هذا الاستعراض السريع للمشهد الأفريقي المُتحول، يتأكد أن مصلحة تونس تقتضي منح الأولوية لعلاقاتها مع القارة الأفريقية في المرحلة المقبلة، ورُبما مُعاودة اكتشاف أفريقيا.
نقلا عن صحيفة الحياة