الخبير العسكري نسيم بلهول يؤكد: انتهى الدور الوظيفي الإستراتيجي لداعش وانقضت مدة التكليف بالمهام
حاوره: عبد السلام سكية
صحافي ورئيس قسم القسم الدولي بجريدة الشروق اليومي
يستشرف الخبير العسكري، وعضو المجلس العلمي العسكري الروسي، الدكتور نسيم بلهول، الوضع في المنقطة العربية بعد إعلان الحكومة العراقية تحرير مدينة الموصل “العاصمة المفترضة” للتنظيم الارهابي داعش، وانكسار التنظيم في سوراي خاصة الرقة، ويعتقد الخبير في هذا الحوار مع الشروق أنه قد انتهى الدور الوظيفي الإستراتيجي لداعش، وانقضت مدة التكليف بالمهام، لكنه يشير إلى ولادة تنظيم أكثر عنفا في خرسان، ويكشف محدثنا عن حصول العراق على كنز معلومات بشأن تنظيم داعش.
العراق يعلن الانتهاء من تحرير الموصل وفي سوريا عملية تحرير الرقة تبدو قريبة، هل انتهى تنظيم داعش الارهابي، اعتمادا على هذين الشاهدين؟
لقد انتهى الدور الوظيفي الإستراتيجي لداعش، وانقضت مدة التكليف بالمهام، فقبل أيام من الهجوم على الموصل ألقت السلطات العراقية القبض على شخص ينتمي للتنظيم سهّل الوصول إلى كنز استخباري خطير جدا كان بحوزة قيادي آخر في الموصل كان على اتصال معه، والأمر يتعلق بشرائح ذاكرة إلكترونية متطوّرة جدا لا تفتح إلا بتقنيات حديثه، لا تتوفر إلا لأجهزة استخباراتية متقدمة تحتوي على أدق المعلومات عن جماعة أبو بكر البغدادي وهيكل التنظيم والأسماء الحركية والحقيقية لخلاياه المسلحة والجهات العراقية والسورية التي يتعاونون معها سرا وكذلك الأطراف الخارجية التي تحرّكهم بسرية مطلقة خاصة بعد إحكام سيطرتهم على حقول النفط السورية.
وهذا الشخص الذي ألقي القبض عليه يلقب (أبو هاجر) الذي خدم الجماعة كونه مراسلا سريا عرف بالحذر الشديد، حيث سلم للاستخبارات العراقية (بإيعاز من إدارة ترامب) تلك المعلومات بعد 15 يوما من التحقيق معه لانتزاع الاعترافات منه، وتحطيم جيل من شبكات الرعب الاستخباراتي الأمريكي في المنطقة.. إن أجهزة المخابرات في المنطقة ودول العالم مقبلة بعد تحرير الموصل والرقة ومرحلة ما بعد داعش على معلومات خطيرة جدا لم تتأكد لحد الآن دقتها وفيما إذا كانت حقيقية تماما أو هي جزء من حرب دعائية استخباراتية مضادة.
في الحقيقة انتهى الدور الداعشي أكثر مما يتعلق وانقضاء التنظيم خاصة في إطار إستراتيجية الضربات التحسينية الروسية من على منطقة العمليات السورية، حيث أن القسم الأكبر من تهريب النفط الذي يوفّر لتنظيم داعش الإستخباراتي 1.5 مليون دولار يوميا يمر عبر تركيا، ويوفّر له مسافة الراحة ما يتعلق بشراء التنظيم للأسلحة من شرق أوروبا. فتجارة النفط الخام المستخرج من المناطق التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” في سوريا تتم بمشاركة آليات اقتصادية خفية، فالمهربون يحصلون على النفط عن طريق الدفع نقدا في مناطق الاستخراج، مجتازين الحدود البحرية، متصلين مباشرة برؤساء تنظيم “داعش” للاتفاق على الصفقات بين ثالوث الرعب والمال والاستخبار.
الضربات الجوية الروسية الموجهة إلى مواقع تنظيم “داعش” في سوريا نجحت في تحقيق تخفيض كبير في حجم النفط المصدر بطريقة غير شرعية، ما قوّض هامش التمويل البديل من حراك التنظيم في محور سوريا – العراق.
أي ردة فعل سينتهجها هذا التنظيم؟
من وجهة النظر التكتيكية، سيعمد التنظيم كخطوة أولى إلى اعتماد إستراتيجية الانسحاب الظاهري من ربع الحركة والمناورة الإستراتيجية للتنظيم (الموصل) في اتجاه نقل قيادته إلى قضاء الحويجة (55 كم جنوب غربي كركوك). نظرا وحاجة تنظيم داعش لاستمرار نشاطه وعملياته وتعرضاته والتي لا تتوفر حاليا إلا في قضاء الحويجة ونواحي الزاب والرياض والعباسي والرشاد. في الحقيقة التنظيم مقبل على عملية تحوّل تنظيمي وهيكلي.. ستنتهي التسمية القديمة وينتهي الدور السابق ليظهر الجسد بتسمية جديدة وأهداف إستراتيجية وظيفية متجدّدة.
التنظيم استقدم بداية الأسبوع 800 مقاتل تابعا له، بعضهم جرى نقلهم عبر نهر دجلة من الحدود السورية والأردنية ومدينة الموصل، اقتيدوا بأمر من قيادات داعش الأولى وهم معصوبي الأعين (على طريقة المجتمعات السرية) لكي لا يعلموا طرق ومسارات التنظيم الخفية، وسيعمد التنظيم في الأيام القليلة القادمة كآخر مرحلة من مراحل النكاية وإدارة التوحش الداعشي على اعتماد تكتيك الهجوم بالحشد من خلال جمع أعداد كبيرة من عناصره لغرض شنّ هجمات وتعرضات على مرتفعات حمرين وحقلي علاس وعجيل النفطيين ومناطق أخرى بالتماس مع الطوز وامرلي، فعلى الرغم من انحدار التنظيم إلى الأسفل إلا أن داعش لا يزال ينتشر بسرعة كبير ويجمع عناصره في مناطق كجنوبي كركوك وغربيها.
في وسط هذا الانحدار الإستراتيجي المتوقع لداعش، هناك من في أوساط الإدارة الأمريكية السابقة من يدعو إدارة ترامب إلى تقديم المساعدة العسكرية لداعش في سوريا، وذلك في الوقت الذي تقوم فيه بمحاربة هذا التنظيم في العراق. سياسة بمثل هذا التناقض والخطورة يمكنها بنظرة أن تسمح بـ “ممارسة ما يكفي من الضغط على بشار الأسد وروسيا وإيران وحزب الله” لكي تقبل بالتفاوض على أساس رحيل الرئيس السوري.
فالحرب الأمريكية الجديدة على داعش كشفت عن وجود تمايز أقل ما يقال عنه إنه جريء وأهوج بين ما ينظر إليه على أنه داعش “الأرض” التي تمتد من العراق إلى سوريا، و”داعش العالم الافتراضي” التي تحرك أنصارها عبر الفضاء الافتراضي.
أعتبر جازما أن “داعش الثانية” هذه عنصر “شيطاني، وقاس، وناعم: تنشر إيديولوجيتها عبر الأنترنت. وتعبئ مناصرين عقائدياً في أوروبا والعالم الإسلامي وتشكل التهديد الأول الذي يثقل كاهل العالم الغربي. وبما أن الهدف الرئيسي لـ “داعش الأرض” هو تحقيق الانتصار على بشار الأسد وداعميه، فإنني أعتقد على الرغم من هزيمتها في العراق أنها تعتبر ورقة قوة إستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة وحلفائها.
ومن شأن الهزيمة العسكرية لداعش في العراق وسوريا أن تؤدي إلى تكاثر العمليات الإرهابية التي تقوم بها “داعش العالم الافتراضي” في الغرب وغيره، وذلك بهدف التعويض عن انهيار “خلافة” أبي بكر البغدادي. غير أن أوساط نافذة من جماعة الميسوديت في البيت الأبيض الأمريكي تضغط على دونالد ترامب من أجل أن يترك داعش لتكون معضلة في مواجهة الأسد وإيران وحزب الله وروسيا، وذلك بالطريقة نفسها التي شجّعت فيها واشنطن سابقا المجاهدين على إثخان الجيش السوفياتي في أفغانستان خلال فترة الثمانينيات.
يبدو أن إستراتيجية “ترقب عن كثب” لإدارة أوباما انتهت مع دخول ترامب وسط أوراق الصقور وهو ما أغضب هؤلاء جراء هذا التحوّل الإستراتيجي والهام في صفوف السلوك الأمني القومي الأمريكي في المنطقة. ففي حين كانت الولايات المتحدة قد انتظرت لمدة 10 سنوات قبل أن تقصف “المقاتلين من أجل الحرية” سابقاً الذين كانت تحركهم الاستخبارت المركزية الأمريكية في أفغانستان، ما جعلها تطلق أطول حرب في تاريخها، يبدو أن القوات الأمريكية قد أصبحت منخرطة، منذ تولي ترامب، في القتال ضد “المعارضة المعتدلة” التي خلقتها بنفسها. وكما في كل صراع من هذا النوع تقوم فيه قوة كبرى مسلحة بضرب رجال عصابات مستعدين للموت دفاعاً عن قضيتهم، فإن الرابح الوحيد في مثل هذه الحلقة المفرغة (وسيبقى) شركات الأسلحة المتعدّدة الجنسيات التي تضاعفت أرباحها بفضل عدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وبفضل فرص البيع التي يوفرها ذلك منذ العام 2014. على هذا، وسواء كانت داعش عدواً أو ورقة إستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة، فإنها ستشكل بالتأكيد بالنسبة للإدارة الأمريكية الجديدة تهديداً مالياً في السنوات القادمة.
بدأ هذا التنظيم كبيرا بتجنيد الآلاف والسيطرة على مناطق واسعة في عدد من الدول، وفي السنتين الماضيتين عجز التحالف الدولي عن القضاء عليه.. لماذا هذا الانهيار السريع له؟
رغم كل ما تخلّفه “داعش” من مآس، ستقف أمامها البشرية بندم يفيض حسرة فإن فصل داعش في المسرحية البشرية كان الأكثر مدعاة للسخرية، عصابة تتألف من قطاع طرق ولصوص وأفاقين وبهلوانات ومرضى معقدين تدفع بالعالم كله إلى أن يعيش واحدة من أشد لحظاته توترا.
الذعر الذي نشره داعش في شوارع أوروبا وأماكنها العامة لم يكن مسبوقا. أما ما فعله التنظيم في المناطق التي صارت جزءا من دولته فهو مزيج مما شهدته البشرية من فظائع عبر تاريخها الكئيب. بالنسبة لأوروبا التي صعقت بضربة باريس يمكن أن يهون الأمر لو أن تلك العصابة وجهت ضربتها في لحظة غفلة واختفت. لو أنها لم تعلن استعدادها لارتكاب جرائم مضافة في أماكن أخرى من أوروبا متخذة من خلاياها النائمة وسيلة لتنفيذ خرائط الطريق التي ترسمها يد الشر. غير أن داعش، وهو الاسم التي يتعفف عن استعماله عديد زعماء الدول والكثير من وسائل الإعلام وفي مقدمتها قناة الجزيرة القطرية يملك عنوانا ثابتا على الأرض وله سجلات موثقة في دوائر المخابرات والأجهزة الأمنية. في تلك السجلات التي لا تقبل الخطأ، يوجد إحصاء دقيق كما يُخيّل إليّ بعدد وأسماء وأعمار وجنسيات الدواعش والأمراض النفسية التي يعانون منها، الصغار منهم والكبار على حد سواء. وإذا ما نحينا جانبا ذلك الخيال الذي يحمل انحيازا إلى نظرية المؤامرة التي يسخر منها الكثيرون، كما لو أن كل شيء في العالم يجري في سياق طبيعي مثلما تدور الأرض على نفسها، فإن ظهور داعش وتمدّده وانتشاره وقابليته على العيش ومرونته في الحركة وحصوله على الأموال وتزوّده بالغذاء والوقود وغيرهما من البضائع كالسيارات اليابانية الحديثة، ناهيك عن ذخيرته من السلاح والمعدات العسكرية، كلها يمكن أن تعتبر معجزات في عصر فتكت فيه التقنية العلمية المتقدمة بعالم الأسرار.
لا أظن أن داعش وهو لغز بالنسبة لضحاياه والمعجبين به معا، هو كذلك بالنسبة للقوى الكبرى ولأجهزتها الأمنية التي يعز علينا أن تهزم على أيدي ثلة من المتوحشين بأساليبهم البدائية. لقد ضرب داعش قوتين نوويتين هما روسيا وفرنسا في وقت واحد. فهل علينا أن نصدق أن المآسي التي هي حصاد الضربتين قد وقعت من غير أن تملك الدولتان القدرة على التصرف الوقائي لمنع وقوعها؟. ولكن القوى الدولية ومنها روسيا وفرنسا لم تتحرك لإنقاذ ايزيديي سنجار العراقية في الوقت المناسب. لقد جرى قتل الرجال هناك واغتصاب النساء وبيعهن في أسواق النخاسة وحرق البيوت في القرى أمام العالم من غير أن تمتد يد لدفع الضرر قبل وقوعه. حطم داعش أعظم آثار الحضارة البشرية في آشور ونمرود وتدمر أمام عدسات التصوير فتُرك الأمر لمنظمة اليونسكو لكي تندّد بتدمير إرث الإنسانية الحضاري. وكما يبدو فإن هناك مَن يتسلى بعجز الحكومة العراقية عن تحرير الأراضي العراقية التي احتلها التنظيم. هناك مَن ينظر بإعجاب إلى خروج الرقة السورية من قبضة النظام الحاكم في دمشق. داعش الذي صُنف باعتباره تنظيما إرهابيا قبل أن يعلن خليفته المزعوم عن قيام دولته كان إلى وقت قريب يتعامل مع العالم بخفة يد الساحر، وهو يعرف أن أيادي خفية تبعد عنه خطر الوقوع في المصيدة. هكذا يكون داعش قد ضحك على الجميع، ضمنهم مَن كتبوا شهادة ميلاده..
من القاعدة إلى داعش، وتنظيمات إرهابية أخرى، هل سنشهد تشكل تنظيم جديد في المنظور القريب والمتوسط، وأي تصوّر لك بشأن هذا التنظيم؟
إن إستراتيجية تقطيع أوصال الشرق الأوسط القديم، وتركيب شرق أوسط جديد، تتطلب استخدام الحدّ الأقصى من الصخب والتوّحش، وهذا ما لم يتحقق في صورته المطلوبة كما يريد مهندسو استراتيجيات التوّحش الإمبريالي، لا يعني هذا التوصيف للواقع واستشراف آفاقه المستقبلية، أننا ينبغي أن نستسلم أو نرهن إراداتنا الوطنية بالأقدار، بل يعني أن ندرك على أكمل وجه حقيقة ما يجري. وبكل يقين، فمن دون إدراك حقيقي وعميق لما يجري، لن يكون بوسعنا فعل أي شيء، أو أن نقوم بأي ردّ فعل مناسب.
في الحقيقة ستبدأ آخر فصول الرعب في المنطقة، عند الإعلان عن ولادة تنظيم (خراسان) الأكثر توّحشاً من داعش، إنه موجة وحشية جديدة، قد تبدو فظاعات داعش أمامها نوعاً من (التسلية). كثيرون قد لا يصدقون هذا، لأن الناس في طبعهم البشري أكثر ميلاً للأمل بأن لا يحدث الأسوأ، لا بما يحدث في الواقع من أهوال، ومع ذلك فما يجري ويتمّ التحضير له في كواليس الوحوش الإمبريالية، أمر حقيقي ومتوقع ويفوق كل تصوّراتنا. ومثلما ولدت داعش من رحم تنظيم القاعدة، سوف تضع داعش مولودها الجديد قريباً: تنظيم خراسان. إن داعش الآن في شهور حملها الأخيرة (الانهيار)، وهي تهيئ الأرضية المناسبة لولادة (ضدّها النوعي) الذي سيكون أكثر توحّشاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن الشروق