العراق والصومال: بين المصالح الدولية والإقليمية وتحديات الوحدة الوطنية
تشكل منطقتي الشرق الأوسط والقارة الأفريقية واحدة من أهم المناطق في العالم جيوستراتيجيا، وتبرز أهميتهما نظرا لاشتمالها على العديد من المقومات الاستراتيجية والجيوبوليتيكية، لعل من أبرزها المقوم الاقتصادي الذي يشمل وفرة المواد الأولية، والسوق الاستهلاكية، والإنتاج الزراعي. فالموارد الطبيعية فيهما تعتبر الأكثر وفرة وأهمية في العالم ـ ففي مجال الطاقة يوجد ما يقرب من 38% من الاحتياطي النفطي العالمي فيها، وكميات كبيرة من اليورانيوم وغيرها من المعادن، إضافة إلى أن كثافتها السكانية تجعل منها أكبر سوقا استهلاكية في العالم، كما أن موقعها الجغرافي واختلاف المناخ فيها مع صلاحية تربتها للزراعة أعطاها القدرة والقابلية على تأمين الاحتياجات الزراعية بالمستوى الذي جعل منها سلة العالم الغذائية. كل هذه المميزات وغيرها جعلت من هاتين المنطقتين مجالا حيويا لتنافس القوى العالمية.
إلا أنه وبالرغم من هذه المميزات تعيش شعوب هذه المنطقة العديد من الأزمات التي باتت تهدد وجود الدولة، فالحروب التي عاشتها كلا المنطقتين، والانقلابات العسكرية، وتنامي ظهور الجماعات المسلحة، والفكر المتطرف فيها أصبح يشكل الطابع والسمة البارزة للعديد من دولها.
تتناول هذه الورقة التحليلية تسليط الضوء على نموذجين للدول التي تكالبت عليها القوى الاستعمارية، لتصبح دول وكيانات مبلقنة وهشة يسهل في المستقبل إزاحتها من على خريطة المجتمع الدولي، حتى لا تصبح قوى إقليمية في محيطها. وبرغم الاختلاف الجغرافي للدولتين إلا أن التشابه بينهما من حيث أسباب بلقنة الدولة، ودوافع الأطراف، ونتائج الوضع كانت واحدة.
أولاً: الدولة في الصومال والعراق
هناك عدة تعريفات للدولة منها ما ذكره الفقيه الفرنسي مالبيرج بأنها مجموعة من الأفراد تستقر على إقليم معين تحت تنظيم خاص يعطي جماعة معينة فيه سلطة عليها تتمتع بالأمر والإكراه. وعرفها الدكتور كمال العالي بأنها مجموعة متجانسة من الأفراد تعيش على وجه الدوام في إقليم معين، وتخضع لسلطة عامة منظمة. ومن خلال هذين التعريفين يمكن لنا أن نحدد جملة من الأركان للدولة هي الإقليم والشعب والسلطة بالمعنى السياسي، إضافة إلى ركن رابع قانوني هو الاعتراف الدولي، وأخيرا اعتبار التكيف والانسجام الاجتماعي كركن خامس.
ومن خلال تحليل الوضع السياسي للدولة العراقية والصومالية ومدى انطباق تعريف الدولة عليها انسجاما مع مقياس أركان الدولة نجد ما يلي:
-
الركن الأول: الأرض
العراق ومن قبل الاحتلال الأمريكي تقريبا منذ منتصف القرن الماضي كان يعاني من مشكلة وحدة الأرض، فقد كانت الأزمة الكردية تتنامى بسبب فشل السلطة في إدارتها، وتوظيفها من قبل أطراف إقليمية ودولية لتصل إلى مستوى الحرب في سبعينات القرن الماضي. ولم تنتهي المعارك إلا بعد إعلان الحكم الذاتي للمنطقة الشمالية، إلا أن فشل تطبيق الحكم الذاتي ودخول العراق في حربه مع إيران استدعى الأزمة الكردية مرة أخرى حتى وصلت إلى مستوى إعلان الإقليم بعد حرب الخليج الثانية، واستمر الإقليم في وجوده وتناميه حتى بات بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003 وتغيير نظام الحكم إقليما مستقلا بموجب الدستور العراقي والذي نص بموجب المادة (1) على أن العراق دولة فيدرالية.
إلا أن فيدرالية الإقليم وصلت إلى مستوى جعلت من الإقليم خارج نطاق سيطرة الحكومة المركزية وبالتالي يمكن الاعتراف بأن إقليم الشمال بات في حكم الدولة المستقلة.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك تداعيات التغيير السياسي في العراق بعد عام 2003 وتنامي حالة الاحتقان الطائفي فإننا سنكون أمام مشهد تقسيمي آخر للأرض العراقية محكوم للتعددية المذهبية للمكونات الاجتماعية.
وعليه فالمشهد العراقي من ناحية الإقليم (الأرض) يؤكد على اختفاء الوحدة الجغرافية للدولة العراقية. لاسيما بعد ظهور محاولات جادة لدى بعض النخب السياسية في تطبيق الفيدرالية في الأجزاء الأخرى من المحافظات العراقية والتي يمكن أن تفرز لنا على أقل التقادير إقليمين جديدين على أسس مذهبية (شيعي وسني).
وإذا انتقلنا إلى الكيان الصومالي نجد أن مشكلة وحدة الأراضي الصومالية أيضا تشكل واحدة من المشاكل التي رافقت تأسيس الدولة الصومالية ، فبعد الحرب العالمية الثانية وكنتيجة للصراع الاستعماري على القارة الأفريقية فقد تقاسم الغرب استعمار هذه الدولة مؤسسا لثلاثة أقاليم استعمارية هي الصومال الفرنسي والصومال الإيطالي والصومال البريطاني ، وبرغم الاستقلال الصومالي عن الاستعمار الغربي ، إلا أن الصومال عجز عن الاحتفاظ بوحدة أراضيه كما كان عليه قبيل الاستعمار الغربي، إذ فقدت الصومال الكبرى إقليمها الخاضع للاستعمار الفرنسي بعد إعلانه كدولة مستقلة عام 1977 تحمل اسم جيبوتي . واكتفى بالاتحاد بين الإقليمين الآخرين تحت اسم جمهورية الصومال عام 1966.
وبرغم إعلان الاستقلال للدولة الصومالية وانصياعه للأمر الواقع في اقتطاع جزء من أراضيه، إلا أن أزمة التقسيم ما تزال قائمة، إذ ظهرت هذه الأزمة مرة أخرى بعد تداعيات الحرب الأهلية عام 1991 والتدخل الأمريكي فيها، ثم الانسحاب في ظروف أمنية جعلت البلاد في حالة من الاستعداد للبلقنة نتيجة هيمنة بعض القوى والجماعات والإثنيات على مساحات من الأراضي. الصومال الحالي عبارة عن مجموعة من الأقاليم التي تختلف درجة الاعتراف بها من إقليم إلى آخر.
-
إقليم صومالاند في شمال الصومال الذي أعلن استقلاله مع بداية الأزمة الصومالية عام 1991
-
إقليم بونتلاند الذي أعلن استقلاله عام 1998.
-
جوبالاند في الجنوب الصومالي التي اعلنت استقلالها كدولة عام 1998.
-
منطقة باي وباكوول جنوب ووسط الصومال والتي أعلن جيش راحانوين سيطرته عليها وإعلان استقلالها.
-
إعلان استقلال إقليم جالمودج عام 2006.
هذه الانقسامات التي تواجها الدولة الصومالية ــــ كما ذكرنا ــــ تهدد البلاد بالانتقال إلى مرحلة تقسيم التقسيم، فإن دخول الجماعات المسلحة، والإرهابية كحركة الشباب المجاهدين على الخط، وتنامي هذه الحركة بعد احتلالها لمساحات كبيرة من الصومال تجاوزت ثلاثة أرباع الأرض الصومالية قبل تراجعها بسبب الضربات العسكرية، وكذلك ظهور جماعات عرقية مثل ( منظمة خاتومو) التي هي عبارة عن منظمة سياسية تعتبر الممثل لإحدى القبائل الصومالية في إقليم أرض الصومال والتي تسعى إلى الانفصال وإعلان إقليم مستقل بها، لاسيما مع وجود الإرادة الخارجية لهذا التقسيم، وهي الإرادة التي كشف عنها مؤتمر “لندن” الذي عقد لمناقشة الأزمة الصومالية إذ حضر إلى هذا المؤتمر ما لا يقل عن أربعة رؤساء صوماليين لأقاليم مستقلة أو شبه مستقلة. كل هذه المعطيات تؤكد وجود تهديد لوحدة التراب الصومالي.
ومن الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن هذا التحدي الذي يواجهه العراق والصومال يمكن أن يتسبب في نزاعات مستقبلية تتعلق بالحدود بين التقسيمات الجديدة، وهي تحديات لا تقل خطورة عن أزمة الحدود الموروثة عن العهد الاستعماري، فالدولة العراقية لديها أزمة المناطق المتنازع عليها سواء بين إقليم كردستان والمركز، أو بين محافظات منطقة الوسط والجنوب بعضها مع البعض الآخر، وهذه الأزمة تعتبر إحدى الأزمات الموروثة أيضا من سياسة السلطة العراقية قبل 2003 حيث مارست الحكومة آنذاك سياسة تغيير رسم الحدود بين المحافظات لأكثر من مرة .
أما على مستوى الصومال فنجد أن أزمة المناطق المتنازع عليها أيضا موجودة حول مناطق (سول وسناغ) المتنازع عليها بين الإقليمين الصوماليين (بونتلاند) و (صومالاند).
-
الركن الثاني – الشعب:
تمتاز التركيبة الاجتماعية للشعبين العراقي والصومالي بالتعددية، فالقومية والطائفية حاكمة في العراق إلى درجة أن الانتماء القومي والطائفي بات هو المحرك للمجتمع السياسي أكثر من الانتماء الوطني، خصوصا بعد عجز السلطة المركزية عن تأمين الأمن والاستقرار لمواطنيها. العراق اليوم وبحكم الواقع بات منقسما قوميا إلى عرب وأكراد، وطائفيا إلى شيعة وسنة، وهو تقسيم لا يمكن لأي عملية سياسية في المنظور القريب أن تتجاوزه أو أن تقفز عليه، فالحملات الانتخابية باتت تحمل شعارات قومية وطائفية، وتقسيم الوزارات أيضا بات على ذات الأسس، وحتى الدرجات الوظيفية، والمناصب المهمة باتت تخضع إلى هذا الانقسام القومي والطائفي (المحاصصة).
المجتمع الصومالي أيضا هو الآخر بات يعاني من ذات الحالة الانقسامية، خصوصا مع وجود الأقاليم التي ساهمت بدرجة كبيرة في عملية الكينونة الاجتماعية لشعب الإقليم بالمستوى الذي بات على استعداد لقبول الحالة الانفصالية وإعلان الاستقلال، وما يعزز هذه الكينونة هي الإجراءات الحكومية التي باتت تلقى دعما إقليما مثل عقد الاتفاقيات التجارية مع دول كبرى كالصين لتوسيع الخدمات الملاحية لميناء بربرة في إقليم (صومالاند) بدعم إثيوبي من دون الرجوع إلى السلطة المركزية. إن هذه الإجراءات الحكومية بلا شك فيما لو انعكست إيجابيا على الأوضاع الاقتصادية لشعب الإقليم فإنها ستعزز من رصيد القبول الاجتماعي لقرار الانفصال وترسيخ الكينونة الاجتماعية والانتقال بها من مرحلة الإقليم إلى الدولة.
* الركن الثالث – السلطة :
الأحداث السياسية التي حصلت في كل من العراق بعد 2003، والصومال في عام 1991 يفترض بأنها أسست إلى دخول كلا من البلدين إلى مرحلة جديدة من مراحل النظام السياسي، والتي تقوم على أساس النظام الديمقراطي القائم على التعددية الحزبية، والانتخابات، والتداول السلمي للسلطة، إلا أن واقع الحال في كل منهما يكشف عن خلاف ذلك. فالمشهد السياسي العراقي وبرغم إقراره للنظام السياسي الديمقراطي إلا أن تشوهات التجربة العراقية في تطبيق هذا النظام انتهت به إلى ترسيخ المحاصصة السياسية بدعوى تطبيق ( الديموقراطية التوافقية ) ، وبالتالي أصبحت السلطة في العراق مصطبغة بالتعددية المكوناتية وهو ما جاء منسجما مع المشروع الأمريكي في العراق ، اليوم في العراق هناك عملية تدعى بتقاسم السلطة بحسب الظاهر، إلا أن واقعها هو المحاصصة السياسية التي جعلت من منصب رئاسة الجمهورية منصبا للأكراد بحيث أصبح من الصعب قبول ترشيح أي شخص لهذا المنصب من خارج المكون الكردي وقد كان للبرلمان العراقي محاولة لكسر هذه المحاصصة في منصب رئاسة الجمهورية إلا أنها باءت بالفشل .
وأما على مستوى رئاسة الحكومة العراقية ومنصب رئيس الوزراء فقد أصبح أيضا هو الآخر من حصة المكون الشيعي باعتبارهم الأغلبية في الدولة العراقية، واحتفظ المكون السني بمنصب رئيس البرلمان كاستحقاق طائفي أكثر من كونه استحقاقا سياسيا انطلاقا من المحاصصة السياسية كما قلنا باعتباره المكون الثالث في الدولة العراقية.
أما المكونات الأخرى كالمسيحية واليزيدية والشبك وغيرهم فقد تم منحهم بعض المناصب في الحكومة العراقية إثباتا لوجودهم في الدولة العراقية أكثر مما هو استحقاق للعملية الانتخابية. وحتى المرأة لم يكن حضورها في السلطة حضورا ينسجم مع الأطر الديمقراطية القائمة على أساس الاستحقاق الانتخابي بمقدار ما كان حضورا مرمما بنظام الكوتا الذي فرض على النظام الانتخابي ضمان نسبة لا تقل عن 25% من مقاعد البرلمان للمرأة.
بل وما زاد المشهد السياسي العراقي تعقيدا في جانب السلطة هو عجز السلطة عن ممارسة وظائفها في الدولة العراقية، فمازالت السلطة المركزية في بغداد عاجزة عن ممارسة سلطتها في إقليم كردستان بدليل عجزها عن إرسال قوات من الجيش العراقي إلى الإقليم، أو تقييد الصادرات النفطية فيه، أو استحصال إيرادات الضرائب الجمركية منه أو غيرها. ونفس الأمر بالنسبة إلى سلطتها في المناطق الغربية ذات الكثافة السكانية للمكون السني نجد أيضا أن السلطة المركزية تعاني من أزمة أمنية متكررة في هذا الجزء من العراق بسبب عجزها عن فرض سلطتها الأمنية بالمستوى الذي باتت فيه هذه المنطقة تسبب قلقا مستمرا للسلطة العراقية بسبب تعرض هذه المنطقة لعمليات الاختطاف من الجماعات الإرهابية ابتداء بتنظيم القاعدة وصولا إلى تنظيم “داعش” مؤخرا.
في جمهورية الصومال لا يختلف الحال كثيرا، إذ أصبحت السلطة في البلاد مجزأة بالمستوى الذي استأثر فيه كل إقليم بالسلطة، وتأكد هذا الاستئثار من خلال جملة من القرارات، والاتفاقيات التي يجريها الإقليم بمعزل عن السلطة المركزية والتي تتعارض مع الأطر القانونية المعتمدة في الدولة الفيدرالية كما تقدم في مسألة إقليم (صومالاند) وعقد لاتفاقية توسيع ميناء بربرة من دون التشاور مع الحكومة المركزية.
-
الركن الرابع – التكيف الاجتماعي:
من المهم جدا للباحث عند تحليله لطبيعة الانسجام والتكيف في المجتمع العراقي ملاحظة مرحلة ما قبل الاحتلال الأمريكي ، فبالرغم من حالة الانسجام الواضحة في المجتمع العراقي إلا أن هذا لا يمنع أن هناك سياسات تقوم بها السلطة تؤسس إلى حالة من التنافر المجتمعي ، فاستخدام العنف المسلح في معالجة القضية الكردية والتي استخدمت السلطة في حينها الأسلحة الكيماوية في ضرب مدينة حلبجة ، وعملية التغيير الديموغرافي التي كانت تمارسها الدولة لبعض المدن والقصبات الكردية كلها ساهمت في وجود حالة من الاصطفاف المجتمعي ، والانقسام المكوناتي لقوميتين أساسيتين هما العربية والكردية .
وأيضا تبني السلطة آنذاك ـــــ برغم موقفها السلبي من الدين إلا أنها كانت تقدم نفسها على أنها ممثلة للطائفة السنية من خلال ممارساتها الكاشفة عن ذلك ـــــ لبعض الإجراءات التعسفية في حق بعض مكونات المجتمع العراقي، وممارسة تقييد الحريات العامة مثل حرية الرأي والمعتقد وممارسة الطقوس الدينية مثل محاربتها للشعائر الدينية للشيعة، والاحتفال بمناسباتهم، إضافة إلى إلغاء الجامعات الأكاديمية التي تتبنى تدريس المذهب الشيعي ، ومحاربة الحوزة العلمية من خلال اغتيال علمائها ـــــ كما في حصل في اغتيال المرجعيات الدينية عام 1998 والذي جاء ضمن في مسلسل القضاء على الرموز العلمية للشيعة منذ وصول حزب البعث الى السلطة عام 1968 ـــــ كل هذه الإجراءات ساهمت في عملية استدعاء الصراع المذهبي ، وتأسيس حالة من التمايز المذهبي انعكست على صورة الدولة العراقية بعد عام 2003، خاصة بعد استهداف المواقع الدينية المهمة ــــ كما حصل في تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006 ـــــ حيث شكل هذا الاستهداف للمواقع الدينية بداية الدخول في مرحلة من الصراع بين مكونات المجتمع العراقي ما تزال آثاره قائمة حتى الساعة .
الأحداث السياسية والعسكرية التي حصلت في الصومال جعلت المجتمع الصومالي أمام أزمة اجتماعية لا تختلف في نتائجها عن الأزمة الاجتماعية في المجتمع العراقي، وإن اختلفت من حيث الأسباب، أو بعض الآليات، إلا أن الصراع ما بين المكونات الاجتماعية الصومالية وكما تقدم جعل البلاد أكثر استعدادا لقبول العمليات الانفصالية القائمة على أساس الخلل الذي أصاب النسيج الاجتماعي الصومالي.
الأسباب:-
إن هذا التشابه في الوضع العراقي والصومالي لا شك في أنه لم يأت من فراغ، وإنما لابد من وجود جملة من الأسباب التي يمكن وصفها بالأسباب الموضوعية التي باتت تشكل تهديدا جديدا لوجود كل منهما. وبصورة عامة فإن تحليل الأوضاع السياسية فيهما يمكن أن يضعنا أمام جملة من الأسباب التي يمكن وصفها بأنها الأبرز من بين الأسباب المحتملة. إذ قد تتعدد الإجابات وتختلف باعتبار الرؤى والأفكار، فربما يقال بأن دكتاتورية السلطة في كلا البلدين واستمرارها في الحكم لعقود من الزمن كانت تقف وراء حالة الانفجار الاجتماعي، وتجاوز الحالة الوطنية إلى الحالة الاثنية. أو ربما يقال إن تراكمات الحقبة الاستعمارية التي عاشها كلا البلدين كانت سببا في عدم حصول حالة النضج السياسي لكلا المجتمعين العراقي والصومالي بالمستوى الذي يجعل منها بلدان مستقرة سياسيا وأمنيا واجتماعيا واقتصاديا. ومع التسليم بوجود مثل هذه الأسباب، إلا أن هذا لا يمنع من وجود أسباب أخرى ربما تكون أكثر قوة، وحضورا في الأزمة العراقية والصومالية.
أولا: الدور الأمريكي في بلقنة الدولتين
منذ تسعينات القرن الماضي والولايات المتحدة الأمريكية تحاول جاهدة إثبات وجودها كقوة عالمية بلا منافس، وقد كانت تعمل على ترجمة هذا التفوق من خلال العديد من العمليات العسكرية التي تنفذها. وقد جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر لتكون البوابة التي تدخل منها الولايات المتحدة الأمريكية إلى الساحة العالمية لتخوض أكثر من حرب في وقت واحد (كما حصل في العراق وأفغانستان)، لقد كان الاستعراض الأمريكي في حرب الخليج الثانية واضحا عندما استدعت تحالفا دوليا ضمّ أكثر من ثلاثين دولة لإخراج القوات العراقية من الكويت، وقد كان استعراضها هذا واضحا من خلال استخدامها المفرط للقوة والذي لا يتناسب مع قوة وحجم الجيش العراقي. ثم قامت باستعراض آخر للقوة على الحدود الروسية عندما خاضت حربها ضد تنظيم القاعدة في افغانستان عام 2001 تحت عنوان مكافحة الإرهاب. ثم كررت العملية في الصومال لمحاربة التنظيمات المسلحة تحت ذات العنوان، لتنتقل إلى العراق في عام 2003 وهي آخر حرب خاضتها القوات الأمريكية خارج حدودها لحد الآن.
والأمر الغريب واللافت للنظر هو أن جميع هذه الحروب لم تصل إلى مستوى الحسم النهائي بالرغم من تفوق الماكينة العسكرية الأمريكية على خصومها، إذ ما زالت هذه الدول تعاني من فقدان الأمن والاستقرار، وخصوصا العراق والصومال وهما البلدان اللذان بلغا حدًا من التشابه ـــــ بسبب الغزو الأمريكي لهما ــــ في الأوضاع السياسية والاجتماعية والأمنية كبيرا جدا كما تقدم.
إن هذه الغرابة في نتائج الحروب الأمريكية في العراق والصومال يمكن ان ترتفع بسهولة إذا ما علمنا بأن الموقف الأمريكي في التعامل مع التحديات الخارجية خاضع إلى مؤشرين:
-
أن يكون التحدي الخارجي يهدد الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية.
-
أن يكون التحدي الخارجي يهدد المصالح الأمريكية.
والقرار السياسي للولايات المتحدة يتحدد في حجم التدخل في هذه التحديات بحسب هذين المؤشرين. لذا يمكن القول بأن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترى في الأزمتين العراقية والصومالية تهديدا للأمن القومي بمقدار ما هو تهديد للمصالح الأمريكية، وبالتالي أمكن التعرف على أسباب محدودية التدخل الأمريكي في مواجهة التحديات الأمنية فيهما ، بل يمكن القول بأن بعض التحديات الخارجية يمكن أن تتعامل معها الولايات المتحدة الأمريكية على أساس توظيف الأزمة ، وليس معالجتها ، وبالتالي فإنها تقوم بمحاصرتها بالمستوى الذي تجعل تفاعلاتها محدودة ، وهذا ما يفسر لنا التفاعل الأمريكي مع تهديد تنظيم “داعش” لأربيل عاصمة إقليم كردستان ، في مقابل عدم التفاعل المناسب مع تهديد “داعش” للحكومة المركزية في بغداد، حيث كان رد الفعل الأمريكي مع الحالتين مختلفا وخاضعا لحجم المصالح الأمريكية مع حكومتي الإقليم والمركز .
من هنا نجد من المهم جدا وجود قراءة دقيقة من الزعماء والسياسيين والباحثين لفلسفة التدخل الامريكي في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، وخصوصا في العراق والصومال حيث إن المنطقة تشهد مرحلة جديدة من مراحل الاستعمار الغربي تقوم على أساس استدعاء مشاريع التقسيم والتجزئة لمرحلة الاستعمار الأولى والتي وإن كانت متعارضة في مضمونها ولكنها متوافقة في جوهرها على فكرة واحدة وهي: استغلال المنطقة اقتصاديا وفكريا، ومنع شعوبها من بلوغ الوحدة الجغرافية والعودة إلى صيغة التوحيد. قبل انطلاق مشاريع التقسيم خلال مرحلة الاستعمار الأولى.
ثانيا: غياب وضعف الدور العربي في إنقاذ الدولتين؛” الجامعة العربية”
لقد كان الغرض الأساسي لتأسيس الجامعة العربية هو العمل على تنسيق العمل فيما بين الدول العربية بالمستوى الذي يجعلها فريق واحد في مواجهة التحديات الخارجية، ويترجم هذا الغرض من خلال المواقف التي تتخذها الجامعة العربية سواء من خلال القرارات التي تصدرها، أو المشاركة الميدانية في الحدث (كما حصل في تحرير الكويت).
إلا أن اختلاف المواقف بين الزعماء العرب باعتبار اختلاف التوجهات، والتحالفات، والأيديولوجيات، وارتباط البعض منها بمعاهدات واتفاقيات مع بعض الدول الغربية، واستمرار الصراع العربي الإسرائيلي حول القضية الفلسطينية، إضافة إلى وجود التحالفات والتكتلات الإقليمية داخل الجامعة العربية مثل مجلس التعاون الخليجي وغيره، كل هذه الأمور ساهمت في إضعاف التماسك العربي داخلها.
وجاء غزو العراق للكويت ليخرج بهذا الاختلاف إلى مستوى العلن من خلال الانقسام العربي حول الموقف من الغزو العراقي للكويت. وبرغم المحاولات التي قامت بها العديد من الجهات لتقريب وجهات النظر، وانعقاد العديد من مؤتمرات القمة العربية إلا أنها لم تنجح في تجاوز هذا الانقسام إلا بشكل ظاهري الذي سرعان ما تأثر وبان ضعفه عند أول اختبار له.
-
الأزمة الليبية: كانت حادثة لوكيربي إحدى الاختبارات التي كشفت حقيقة التجاوز الشكلي للخلافات العربية، وهي الحادثة التي لم يكن للجامعة العربية موقفا واضحا يمنع من التطاول الغربي على الجمهورية الليبية وعدم فسح المجال أمام الإجراءات القانونية لكشف ملابسات القضية، والتي انتهت فيما بعد بدفع ليبيا التعويضات اللازمة لذوي الضحايا. هذه الحادثة كانت سببا في انعطاف بوصلة الانتماء السياسي للجمهورية الليبية من الانتماء العربي إلى الانتماء الأفريقي.
-
الأزمة السودانية: ثم جاءت الأزمة السودانية لتكشف هي الأخرى عن حجم الضعف السياسي الذي تعاني منه الجامعة العربية، وهو الضعف الذي جعل الموقف السوداني ضعيفا إلى المستوى الذي جعلها تخضع للإرادة الغربية في تقسيم التقسيم وإعلان دولة الجنوب السودانية.
-
الأزمة المصرية: تعيش جمهورية مصر العربية نفس الأزمة في نزاعها مع إثيوبيا حول سد النهضة، حيث نجد أن الجامعة العربية بعيدة كل البعد عن هذه الأزمة تاركة مصر لوحدها في مواجهة أزمتها والتي باتت تشغل حيزا كبيرا من السياسة الخارجية المصرية من خلال جملة من البرامج والفعاليات الثقافية والعلمية والفنية التي تسعى من خلالها مصر الى تأكيد حضورها وانتماءها الأفريقي.
-
الربيع العربي: إن ما كشفت عنه (ثورات الربيع العربي) من مواقف متباينة بين الدول العربية، اضافة الى التدخل المباشر لبعض الدول العربية كدول الخليج مثلا في هذه الثورات كأطراف في المعادلة وليس من باب الوساطة جعل من الجامعة العربية تعيش أضعف مراحل حياتها. لاسيما بعد نشوء التحالفات العسكرية الجديدة والتي فتحت الباب للمشاركة فيها لدول من خارج المحيط العربي للتدخل في النزاعات العربية، بل ومخالفة بنود الجامعة العربية في مسالة استخدام القوات المسلحة العربية ضد الدول العربية. إن هذا الوضع الذي تعيشه الجامعة العربية بلا شك يدعو إلى التشكيك في قدرتها، أو حياديتها في معالجة الأزمات العربية ومنها الأزمة العراقية والأزمة الصومالية.
-
دور الجامعة العربية في أزمتي العراق والصومال
غياب الجامعة العربية عن الأزمة العراقية والصومالية يشكل أحد الأسباب الكامنة وراء حالة الفشل التي تعاني منها كلا الدولتين، إذ أعلن رئيس الوزراء العراقي الأقدم إبراهيم الجعفري في كلمة له في الجامعة العربية عند استضافتها للأطراف السياسية المتنازعة في العراق بأن واحدة من الأسباب التي تدعو العراق إلى الانفتاح على المحيط الإقليمي والدولي لمساعدته في بناء الدولة العراقية ما بعد 2003 هو غياب العرب عن الساحة العراقية ، إن هذا الانسحاب الذي أشار إليه وزير الخارجية العراقي ناتج عن المواقف السياسية التي اتخذنها بعض الدول العربية تجاه النظام السياسي الجديد في العراق والذي تشكل بأشكال مختلفة ومتعددة حيث كان البعض يرى بالحكومة العراقية الجديدة امتداد للنفوذ الإيراني في المنطقة، بينما يرى البعض الآخر بأنها المشروع الأمريكي في المنطقة ، وغيرها من الرؤى والمواقف التي في محصلتها النهائية كانت سببا في غياب الحضور العربي على الساحة العراقية، مما كان سببا وراء إملاء حالة الفراغ العربي هذه من قبل قوى إقليمية وعالمية، بل إن الجامعة العربية لم تستثمر استضافة العراق لمؤتمر القمة عام 2012 بالمستوى الذي يمكن أن يتجاوز حالة غياب الدور العربي في الأزمة العراقية. وقد أشار الاستاذ حمدي عبد الرحمن في بعض آرائه إلى أن غياب العرب عن الأزمات العربية ومنها الأزمة الصومالية فإنه يمكن أن يساهم في تكرار التجربة السودانية وبالتالي تقسيم الصومال.
إن الجامعة العربية وبرغم الإمكانيات الكبيرة التي تمتلكها، وطول فترة تأسيسها بالقياس إلى منظمة (الإيجاد)[1] التي تأسست عام 1996، إلا أن الأخيرة اهتمت بالأزمة الصومالية وشكلت لجنة لمتابعة الأزمة الصومالية ، والسعي لتحقيق المصالحة الوطنية ، استطاعت هذه المنظمة أن تعقد مؤتمرا في جيبوتي عام 2000 ، تم خلالها تشكيل سلطة تشريعية انتخبت رئيسا للبلاد ، جعلت من أولى مهامها التفاوض مع المعارضة الصومالية .
ثالثا: الإرهاب (من نتائج الدور الأمريكي وضعف الدور العربي)
أصبح العراق بعد عام 2003 بسبب هشاشة الدولة العراقية وغياب السلطة المركزية ، وقرار سلطة الاحتلال الأمريكي بحل المؤسسة العسكرية العراقية ساحة مفتوحة وملاذا آمنا للجماعات الإرهابية ، لذا تحول العراق وخلال فترة بسيطة إلى ساحة للنشاط الإرهابي المتمثل بامتدادات تنظيم القاعدة في المنطقة وبالتالي ظهور أزمة أمنية استمرت لأكثر من عامين تقريبا جعلت العراق يعيش حالة من الصراع الداخلي ، وفي عام 2014 ظهر تنظيم “داعش” في العراق وبقوة من خلال سيطرته على مدينة الموصل وتهديده للعديد من المحافظات العراقية ومنها بغداد واربيل قبل أن تتم عملية احتواء العمليات العسكرية وتحديد توسع هذا التنظيم ومن ثم الانطلاق في عملية استعادة الأراضي العراقية المختطفة من قبل داعش.
في الصومال أيضا تسببت عملية انهيار الدولة الصومالية والتدخل الغربي فيما بعد وانسحابه منها قبل بسط الأمن، بظهور الجماعات المسلحة، فكانت حركة الشباب المجاهدين الصومالية من أولى الجماعات التي ظهرت على الأرض الصومالية وتمكنت من كسب التعاطف الشعبي معها خصوصا بعد استيلائها على مساحات كبيرة من الأراضي الصومالية كما تقدم، وقد كان لهذه الحركة ناط عسكري في العديد من الدول المجاورة وأبرزها في كينيا عندما بدات تستهدف المؤسسات الحكومية فيها بسبب مشاركة الجيش الكيني في العمليات العسكرية على الأراضي الصومالية ، واعتبار كينيا جزءا من المشكلة الصومالية لاسيما وأن هناك نزاعا قديما بين الصومال وكينيا حول بعض الأراضي التي اقتطعت من الصومال الكبير قبل الاستقلال ومنحها إلى كينيا .
ثم ظهرا مؤخرا جبهة “شرق أفريقيا” التي ظهرت والتي يرى البعض بأنها أحد فصائل حركة الشباب المجاهدين حيث بدأت هذه الجبهة تلفت النظر إليها وتكسب العديد من الانصار مما يوحي بوجود احتمالية هيمنت هذه الجبهة على بعض المساحات لتعلن دولتها الإسلامية خصوصا بعد إعلان بيعتها لتنظيم” داعش” الإرهابي.
ختاما:
تنتهي هذه الورقة التحليلية إلى أن هناك عملية تجسد لمفهوم البلقنة التي أرادته بعض القوى الدولية لنموذجي العراق والصومال في ظهور مصطلحات ك “العرقنة" وهي فكرة صنعها الاحتلال اعتماداً على أدوات أهلية محلية. وهذا المفهوم الذي دخل على خطوط المنطقة يعتبر إضافة على ملاحق تم تسويقها أو تصديرها للمنطقة العربية الإسلامية منذ أكثر من قرنين. وهناك مصطلح " الصوملة". وهي فكرة تشطير الدولة المركزية إلى دويلات طرفية تؤسس مراكز قوى شبه مستقلة تحيط بمركز يعيش حالات من الاضطراب وعدم الاستقرار ويشكل ذاك القطب الذي يجذب العنف إلى الوسط ويمنع تفشي الفوضى إلى زوايا جغرافية الصومال الممتدة على سواحل المحيط ومداخل البحر الأحمر. وبهذا يضمن المجتمع الدولى القوي أن تظل دول العالم الثالث العربية والأفريقية في نهاية صف التقدم والحريات والديمقراطية فلقد حققوا مبدأ (فرق تسد) في كل دولة وطأت أقدامهم فيها.