المناضل السيد محمد عبد الله حسن.. مفجر ثورة الدراويش
كان عام ولادة السيد محمد عبد الله حسن مشهورا في القطر الصومالي، إذ ذاع صيته وعم خيره وانتشرت بركاته، حتى أطلق عليه الصوماليون بـ غُبيسَني Gobeysaneأو (الشهم) لرخائه ورغد العيش فيه، والحياة السهلة والأمن المستتب في الربوع الصومالي.
•مولده ونشأته: ـ
ولد السيد محمد عبد الله حسن عام 1864م على الأرجح في قرية قوب فردود (Qob Fardod) الواقعة قرب مدينة بوهودلي من إقليم توغطير في الشمال الصومالي، هاجر والده من إقليم أوغادينيا (Ogadenia) الذي كانت تشتعل فيه آنذاك المقاومة الكبيرة للمسلمين بقيادة أمراء إمارة هرر الإسلامية ضد الحبشة والصليبين الغازيين إلى شمال الوطن الصومالي، وصهر واحدة من أعرق الأسر والقبائل الصومالية التي كانت تعيش على أنحاء بوهودلي.
كان طفلا نجيبا وولدًا لبيبا منذ نعومة أظفاره، وظهرت عليه علامات النجابة والنباهة وهو دون العاشرة من عمره، فحفظ القرآن الكريم والمتون الدينية وكتب الفقه، واللغة والأحاديث، حتى أصبح ماهرا وولدا يشار إليه البنان في العلم والمعرفة والفصاحة والشجاعة والفروسية، وأخذ لقب الشيخ الذي كان لا يطلق في ذاك الوقت إلا العلماء الكبار، وأصحاب العمائم وهو في التاسعة عشر من عمره، منحه الله ذاكرة قوية وشخصية قيادية في كل الميادين، وشعراً يتدفق عن قريحته الإعجازية، وخيالا واسعا، وحكمة تجري علي لسانه حتى برز بين أقرانه وأترابه وهو لم يتجاوز عقده الثاني.
تربى في عز أسرته وفي كنف والده وبين أخواله المشهورين بالشجاعة والفروسية ودولة القوافي والأدب، وكان شغوفا للرماية محبا للفروسية، مولعا بقصص الأبطال وتاريخ المجاهدين العظام، وكان يظهر تجلدا كبيرا في الألعاب الطفولية والشجار الصبياني، وظهرت قيادته في صغره وفي مرحلة المراهقة التي تظهر عبقرية الشخص وذكاءه.
•رحلته إلى رحاب الديار المقدسة: –
في عام 1892م وعندما درس معظم المعارف الدينية والثقافية المتاحة في بلده والعلم الذي كان متوافرًا في منطقته، سافر إلى الديار المقدسة مشيا على الأقدام مع نفر من أصحابه، أمّ وجهه شطر الحرمين الشريفين فنهل العلم من معين مكة المدرار ونمير المدينة الذي لا ينضب، وأصبح طالبا للعلم في مهبط الوحي وأرض الخيرات والبركات هناك في الحجاز وزوايا المساجد المباركة، وعاش مع أسفار العلم وأبوب المعرفة في دار الهجرة وجوار الكعبة المشرفة، فصقلت رحلته المباركة إلي الديار المقدسة شخصيته ومنحته بعدا دينيا وثقافيا وفكريا لم يكن من الممكن أن يجد في بلده وبين أهله ووسط عشيرته القاطنة هناك في جكجكا وما حولها وعلى تخوم بوهودلي وسهول نغال الفسيحة.
عاش مع المناضلين والعلماء الأجلّاء جنبا إلى جنب، وأعطاه الاحتكاك الدائم لهم خاصة في موسم الحج والعمرة معرفة أوسع لما يجري في العالم وخبايا المقاومة النشطة في العالم الإسلامي، وفي هذه الفترة زار السيد محمد عبدالله حسن مصر وعاش في القاهرة فترة من الزمن، وزار الأزهر الشريف والتقى علماءها الأجلاء، وفي طريقه إلى الصومال مر على السودان ومكث برهة من الزمن في منطقة السواكن التي كان المهدي السوداني يدرب جيوشه فيها، ويجمع رجاله الذين خاضوا معارك مريرة ضد الاحتلال الإنجليزي، فكانت هذه الزيارة بمثابة شعلة أضاءت له طريق الجهاد، وتجربة ناجحة بكل المقاييس استفاد السيد منها أمورا كثيرة مثل التكتيك العسكري والقيادة الميدانية والانضباط الحركي والتنظيمي وإدارة المعارك في ظل ظروف أمنية صعبة وحالة معيشية معقدة.
ولم تكن هذه الزيارة أو الحياة في الحجاز ما منحته الحس الوطني والرغبة الجامحة لمقاومة المستعمر، بل كان مستاء من الحالة المعيشية والحياتية لشعبه والحالة المزرية التي دخلها الوطن بفعل السياسة الهوجاء للمستعمر قبل أن يسافر إلى الديار المقدّسة.
•العودة إلى الديار وتأسيس حركة الدراويش: ـ
وبعد سنتين من رحلة المعرفة والتجارب رجع إلى الوطن وهو متسلح بالعلم والمعرفة والفكر الثوري الكبير الذي طرأ عليه، وهو يعيش في مكة عندما سمع عن الحركات الثورية والجبهات المسلحة التي تحارب الاستعمار وتسعى إلى تحرير بلدها وطرد المحتل وأذنابه في ديارهم.
كانت الأخبار المتتالية التي تتحدث عن البطولات والملاحم الجهادية في العالم الإسلامي تملأ أذنيه وتروق للسيد محمد وتذكي روح الجهاد في نفسه التواقة إلى الحرية ونفض غبار الذل والاستكانة، ويقول بعض المؤرخين إنه عندما رجع إلى الصومال سأل طفلا عن اسمه فقال له: اسمي جون!، فسأل السيد الولد وماذا كان اسمك قبل ذلك: فقال الولد: علي!، فاستشاط غضبا وتحول إلى جمرة لاهبة، وقال كلمته المشهورة “إن لم نحارب اليوم سنبحثها بعيدا في الغد”، أي إن لم نقاوم ونموت من أجل دفاع ديننا ومقدساتنا فستنتصر موجات التنصير وتكون الصومال دولة مسيحية او يعيش فيها جالية مسيحية كبيرة، عندها سيكون بحث الإسلام وعودة من ارتد عن الدين بعيدا جدا.
كما يروى أن حاكما إنجليزيا قتل مؤذنا لارتفاع صوته بالآذان والذي حال دونه ودون النوم الهانئ، وعندما تواترت هذه الأخبار إلى السيد، قرر تأسيس النواة الأولى لحركة الدراويش التي ملأت الدنيا جهادا وتحريرا وشغلت الناس، وجعلت حياة الاستعماري عبارة عن حروب متواصلة ووقائع متتالية وصراعا مع الأخطار.
لقد أذاقت الدراويش الاستعماري الأوروبي والأفريقي الويلات تلو الويلات، حتى أصبحت المقاومة الدراويشية واحدة من أعتى الحركات التحررية التي حملت لواء الاستقلال وطرد المحتل في العالم أجمع، ولعل مدى الاهتمام الكبير الذي أولاه الإنجليز لهذه الحركة وما جمع لمحاربتها من الجيوش والقواد، وتخصيصه ميزانيات ضخمة لإجهاضها ومحاربتها، واختياره أمهر قادته تدلنا على أن المستعمر كان يرى تحت الرماد وميض نار، وكان يرى أن الدراويش هي أخطر حركة مقاومة نشطة ضد الإنجليز في العالم أو على الأقل في أفريقيا.
كانت ثورة الدراويش الشرارة الأولى والحراك الأهم الذي حرك الساحة الصومالية وغيّر المفاهيم وصحّح الأخطاء التاريخية التي وقع عليها الصوماليون، ووجهت بوصلة الشعب إلي وجهتها الصحيحة من الحروبالعبثية والغارات العشائرية والصراعات القبلية، إلى الجهاد في سبيل الله وحمل السلاح ودحر المغتصب للأرض والانخراط في النضال الذي يستهدف إلى تحرير الإنسان الصومالي قبل الوطن.
•الشعب الصومالي وثورة الدراويش
لقد أعادت ثورة الدراويش الاعتبار للشخصية الصومالية التي ظنها الاستعمار بهوسه وبجنونه أنها ضعيفة ومشتتة ولا تقوى المقاومة، ولا تستطيع إعداد جحافل من الجيوش تواجه المستعمر وأذنابه لانشغالهم بأمور تافهة واحتكاكات داخلية وصراعات قبلية لا تنتهي.
كان السيد محمد عبد الله حسن درّة نادرة وشخصية فريدة لا تتكرر في التاريخ الصومالي، وعى شعبه من أقصاه إلى أقصاه عبر رسائله وأخباره وأشعاره الحماسية التي كانت الأسفار يتناقلونه والأجيال يحفظونه، ودعا الصوماليين إلى الجهاد ومحاربة الاستعمار ونفض غبار الاستكانة، ولوصول هذا المغزى العظيم كان لابد من كسر حاجز الخوف والانطوائية لبعض القبائل، وإزالة الشك وإخلاص النوايا لبعض القبائل التي كانت تخاف من زوال ملكها وسلطنتها إن ناصرت السيد وأعانته ووقفت إلى جانبه، وأيقن السيد بحنكته السياسية ورؤيته الثاقبة وإيمانه القوي أن الثورات لا يمكن أن تنجح أو تدوم مالم تجد حاضنة شعبية تحوى المقاومة وتؤزر المجاهدين فسعى إلى الصلح والمهادنة.
•شخصية السيد محمد عبدالله حسن: ـ
كان السيد محمد لغزًا محيرًا في جميع الأصعدة والميادين، صوماليا لم يكن معتادا أن يبرز العلماء والشيوخ والطرق الصوفية في هذه الفترة لمحاربة الاحتلال، بل كانت معظم الطرق الصوفية في العالم العربي والإسلامي تهادن أو تميل للمستعمر مالم تتعاون معهم، إضافة إلى شخصية السيد محمد عبدالله حسن المثيرة فهو قائد محنك، وشيخ بارز، وسياسي لبق، وشاعر لا يشق له غبار، وشجاع قلما نجد مثله في الكتب وأروقة التاريخ ، وفي نظر المستعمر كان كهلا مجنونا لا يقدر الظروف، ولا يعرف الواقع، ولا يدري قوة الإنجليز وأعوانهم وآلياتهم الرادعة لمن سولت نفسه أن يقاوم أو يحارب ضدهم.
ومن أولى تصرفاته وفي فاتحة كلامه وتحركاته في كافة المحاور، أدرك الصوماليون أنهم أمام شخصية مغايرة تحمل الشجاعة الصومالية في أبهى صورها، ورزانة العلماء في أسمى معانيها، وحنكة القواد في ألمع حالاتها، وجمال الأدباء في أنضر أحوالها، وأنه لا يوجد في الساحة الصومالية شخصية أمثل وأقوى من السيد لقيادة التحرير وامتلاك زمام الجهاد لنصرة المستضعفين، وأدرك المستعمر أنه أمام عظمة الإنسانية الصومالية وأمام رجل لا يخاف من سوطهم ولا يسيل اللعاب إلى جزرتهم.
ولقد أظهر السيد محمد عبدالله حسن حنكه سياسة وفهما متقدما حينما هادن بعض القبائل التي كانت تضمر الحقد والحسد، أو كانت تميل إلي نصرة المستعمر، وكان يفر الاندفاع إلى حروب عبثية لا طائل من ورائها فكان نعم القائد لتميزه العسكري وتفوقه التكتيكي وقوته الفكرية والأدبية وفكره الثاقب وشجاعته الكبيرة، ولم يكن شجاعا متهورا، بل كان شخصية اكتملت عليها كل صفات القائد الناجح من الشعور بأهمية الرسالة، والشخصية القوية، والإخلاص، والنضج، والآراء الجيدة، والطاقة، والنشاط، والحزم والتضحية، ومهارة الاتصال والتخاطب، والقدرات الإدارية، وجدير بشخصية اجتمعت عليها هذه الصفات أن تأبى الضيم والظلم فقرر السيد مع رفاق دربه وخصوصيته وعدد من أقاربه وأخواله مجاهدة الكفار وأذنابهم وطردهم من تراب الصومال الطاهرة.
وبفضل هذا الملهم أظهر الشعب الصومالي بسالة نادرة وشجاعة منقطعة النظير لإقلاع جذور المستعمر وطرده من الوطن، وأيدت كل شرائح الشعب المقاومة المشروعة والجهاد القائم، ولم يواجه أية معارض تذكر سوى المرتزقة والمنتفعين بوجود الاستعمار، أصحاب الضمائر الميتة والأعمال الفاسدة، وبعض شيوخ القبائل الذين يشكلون جيوبا للمستعمر.
• المعارك الفاصلة في تاريخ الدراويش
كان النصر حليف الدراويش في معظم النزال والمعارك البطولية ضد الاستعمار وأذنابه، وإذا نظرنا المواقع رغم كثرتها ندرك مدى عمق إيمان هذه الفئة المؤمنة، ونرفع القبعة وحاجب الدهشة عندما نقارن إمكانياتهمالبسيطة بإمكانيات العدو المدجج بأحدث الأسلحة وأقوى العتاد والعدة، علما بأن الاستعمار لم يكن دولة واحدة بل كان عبارة عن أوروبا وأفريقيا أمثال الإنجليز، والطليان، وفرنسا، والحبشة، وأوباش من الهنود والأفارقة ومرتزقين صوماليين.
ولعل في موقعة “جدبالي” JIDBAALE خير دليل على مدى إيمان الدراويش وبسالتهم وحماستهم وتسابقهم للشهادة ودحر العدو وإيمانهم بأنهم ماضون إلى إحدى الحسنيين: إما حياة تسر الصديق وإما ممات يغيظ العدو.
كانت مساحة الصومال كلها مسرحا ساخنا لجهاد الدراويش، وتزيد الحيرة عندما نعرف أن ثكنات الدراويش كانت تقع على الساحل الشمالي للصومال أو مناطق الهود وبوهودلي وتليح وولوال وورطير في أوغادينيا، وعندما نضيف ما ذكرنا إلى قلة الإمكانيات وتواضع عدتهم مقارنة بالترويكا الآثمة) الإنجليز والطليان والحبشة) تزيد الدهشة وتكبر يقيننا التام بنصر الله لهم، ولكن تبطل الدهشة عندما نعرف عظمة القادة، وكفاءة إدارتهم، وحنكتهم السياسية، وعبقريتهم، وإخلاص المجاهدين وعقيدتهم القتالية العالية.
وكانت غارة الطائرات وقصفهم لتليح وقلاع الدراويش فيها أول سابقة من نوعها في القارة السمراء، حيث أصبحت الصومال أول دولة هجم الإنجليز عليها بالطائرات الحربية والأسلحة الفتاكة، وأصبحت الدراويش أول حركة جهادية وتحررية في أفريقيا استخدم ضدها الطائرات العسكرية الإنجليزية التي كانت تقلع من عدن- التي كانت قاعدة عسكرية واقتصادية وميناء كبيرة واستراتيجية للإنجليز-.
ولقد استشهد السيد في إيمي من أوغادينيا عام 1921م وهنا أسدل الستار على حياة رجل حافل بالإنجازات والجهاد والفصول البطولية، وانتهت حياة رجل نذر عمره لتحرير أرضه وبلده من استعمار المحتل، وصحح المفاهيم ولهب الضمائر الصومالية.