المركز العراقي الافريقي للدراسات الاستراتيجية
الموقع الرسمي

الوعي الأفريقي ونقد الموروث (1): النخبة الأفريقية والتسوية الجبانة مع الغرب! معالجة فكر الخنوع السائد

0

في مؤلفه ” الإله والدولة” كتب الثوري الروسي، ميخائيل باكونين، المولود عام (1814-1876), كتاباً سيُنْشَر بعد ست سنوات من وفاته ( 1882)، رسم فيه ما ستصبح محددات الكائن البشري التوّاق للحرية:
يقول في الصفحة ( 12):
” توجد ثلاثة مبادى أساسية تمثل الشروط الجوهرية لكل تطور بشري جماعي أو فردي عبر التاريخ هي:
1 ) الحيوانية البشرية
2) التفكير
3 ) الثورة

ويتطابق بالضبط مع المبدأ الأول: الاقتصاد الاجتماعي والخاص. ومع الثاني: العلم، ومع الثالث: الحرية.”

الثورة: هدفها الأسمى هي الحرية، وقد عبّر عنه المفكر كوندورسيه بطريقة لطيفة حين قال ” إنّ كلمة الثورة, لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية”؛ كتاب ” في الثورة” ل حنة أرندت (1906-1975). الثورة تختلف عن الإصلاح السياسي، الذي يعرّف بأنه ” تعديل حالة مغلوطة للأشياء، أو تحويرها نحو الأحسن، أو العودة بالشيء إلى وضعه الأصلي”
إذن، لِمَ اختفت بأفريقيا قيادات ثائرة, تضحّي بالنفيس لحرية الوطن والشعب؟ هل نفدت الروح الثائرة المقاومة؛ منذ اغتيال توماس سانكارا ( 1949-1987) بطلقات من أيادي الغدر الفرنسية ب7 رصاصات في صدره؟ أو باغتيال بلجيكا المناضل الكونغولي, باتريس إيميري لومومبا ( 1925-1961)، وإذابته جسده في حمض الكبريت؟. ماذا عن الثائر والملهمي الجزائري, العربي بن المهيدي ( 1923-1957)، ألم تعذبّه فرنسا حتى آخر نفسه, ثم نزعت جلد رأسه بسادية-ماذوخية فريدة، مع ذلك، يذكر التاريخ أنّه أبى أن يشي بأقرانه! أين للقارة من أمثال عمر المختار ( 1858-1931)، قاوم الإيطاليين حتى صار رمزا للنضال الصحراوي, أو ستيف بيكو (1946-1977) واغتياله من قبل المخابرات الرجل الأبيض، لرفضه نظام الفصل العنصري ضد السود في جنوب أفريقيا؟ أننسى الثبات والإيمان بالوطن اللذين تحلّى به الثائر, العربي التبسي, ( 1891-1957)!
تعجز القارة الأفريقية عن ولادة أقرانٍ لهم؟!

عودةً إلى المهيدي، مقتبس عنه ” إذا ما استشهدنا دافعوا عن أرواحنا، نحن خُلقنا من أجل أن نموت لكي تستخلفنا أجيال لاستكمال المسيرة” لمَ الجيل الذي خلفهم تقاعس عن استخلاف المقاومة؟ هل باتت لدينا مشكلة مع التحرر؟ قبل الإجابة على التساؤلات، أودّ المرور بأزمة الفكر الثوري لدى الأفارقة.

  • ديباجات الفكر الثوري:

على المستوى الشخصي, أحب المطالعة السميكة, أحب نشوة الفكر, أحب انفجار الدماغ في اللحظة التي يقع على التنوير, حين أقرأ في الثورة والتحرر, أبحث عن كاتب أفريقي تمثّل أطروحاته ديباجة للمقاومة. لكن متأسفًا, أعجز, إلا أمثال كتابات فرانز فانون، أو مالك بن ني. فاضطر للعودة إلى :
هيريقلطس, سقراط, ديكارت, سبينوزا, لايبينتز, كانط, فيخته، شيلنق, وحتى هيغل وكارل ماركس. أعكف كثيرا على حنة أرندت, مارتن هيدنغر, والمبادئ السياسية لدى نيقولا مايكيافيلي, مونتسكيو, روسو, وأحيانا مع القديس أوغستين. هذه النخبة الفكرية, مشكلّة وتنتمي لمختلف المدارس الفكرية والطبقات الاجتماعية, من المثاليين والواقعيين, أو الارستقراطيين والبرجوازيين وكذلك علماء اللآهوت والميتافيزيقيين والسّاسة والأخلاقيين ورجال الدين والفلاسفة والشعراء دون أن ننسى علماء الاقتصاد الهائمين عبّاد المثل العليا بجموحهم, بعضهم بأفكارهم السامية وآخرون بانحطاطهم الأخلاقي, نستخلص منهم شيئا واحدا, أنهم هم من صقلوا التفكير الثوري الغربي, بعبارة أخرى عقول غربية لأزمات المجتمع الغربي, ماذا عن عقول قارتنا؟.

  • ماذا عن الفكر الثوري الأفريقي ؟

اعتاد غوستاف لوبون ( 1841-1931) القول في كتابه ” روح السياسة”, ” إنّ الأنظمة التي تنفع أمة قد تضر أخرى”. وعليه من المحتمل، أن تكون النظم الفكرية الثورية الغربية، تضرّنا بنا, إذا ما اعتمدنا عليها فقط. وهذا يفسّر خطأ القيادات الثورية في القارة السمراء, كل من جوليوس نيريري, جومو كنياتا، وكوامي انكروما في تطبيقهم لمبادئ الاشتراكية الماركسية. فقد اعتمد تحليل كارل ماركس, على الجدلية الطبقية, التي تظهر كثورة على الاقتصاد في مجتمعات ما بعد الرأسمالية. فبينما مجتمعاتنا في تلك الفترة تعيش حالات من الاقتصاد البدائي, معتمداًعلى الزراعةِ والتصدير, ذهبنا نُطبّق الفكر الماركسي الذي يعالج ثورات المجتمعات الرأسمالية الصناعية، ففشلوا فشلا ذريعا في النهوض بالجوانب الاقتصادية لأنّ مفهوم الطبقة البروليتارية الكادحة وصراعها مع البرجوازية منعدم عندنا. كذلك أفكار الحداثة, والتغريب المستورد إلى القارة.

  • أما الكتابات الأفريقية الشحيحة، لماذا ناقشت الهامشات وأوهام الأهمية, بدلاً عن الأهم؟
    ثمة إجابتنان:
    •الأولى: المستعمر قبل خروجه, اختار من القيادة الأفريقية, الطبقة التابعة وأبناء الحفنة العميلة ليستخلف الحفنة الكولونيالية, ومدراء العبيد في الفترة الكولونيالية.
    •الثانية: عملت المؤسسات الكولونيالية على تغريب المثقف الأفريقي, عبر هندسة فكرية منضبطة الأركان لقرون طويلة. ومشروع التغريب الأوروبي كان أخطرهم.
    لماذا التغريب؟ من المهم فهمه الظاهرة، لأنّه نتاج عملية برمجة فكرية مدروسة وبخطة ثابتة, من حماة مصالح الكولونياليين, حتى بعد الإلهاءات المُسمّى بالاستقلال. و يُعّرف التغريب/Alienation “
    أو الاغتراب بأنّه : العملية التي من خٍلاَلِها يَتَحَكَّمُ بها شخصٌ آخر غيرنا في وعينا”. بتعبير ، الذي يتحكم النموذج الغربي فقط على وعينا وإدراكاتنا، ويملي نمط سلوكياتنا.

يؤكد الادّعاء الأول: الكاتب والمفكر الأفريقي : “بول اندا/Paul N’Da” في كتابه ” المثقفين والسلطة في أفريقيا السوداء/Les intellectuels Et le Pouvoir en Afrique noire” يقول اندا ( 1945- 17 أغسطس 2020):

” تكونت الطبقة الأفريقية المثقفة تدريجيا من تاريخ مضطرب. والجيل الأول من تلك الطبقة مشّكلَةٌ ما بين الأفارقة المرؤوسين من المستعمر, ونخبة العبيد المحررين من الأميركيتين, على الأقل فيما يخص غرب أفريقيا. وهم الطبقة التي نصطلح عليها اليوم ” المثقفين”. وهذه المواصفات ندبات أساسية تشرح افتقارهم للأصالة من جهتين:
⁃ 1- عدم الأصالة تجاه مجتمعاتهم (حيث ينحدرون من الطبقة المرؤوسة التي كانت تخدم الأسياد المستعمرين من جانب, ومن جانب آخر تنحدر بعضهم من طبقة العبيد التي اختارها الكولونيالي عمدا, أو كانوا متعاونين معه, فاصطفاها لتصبح أداة المستعمر المطيع في المجتمعات المستَعْمَرة.
⁃ 2- عدم الأصالة من حيث تركيبة الطبقة المثقفة, من التنوع والتشكيلة المزدوجة بحيث تتنافس رغباتهم إن لم تتصادم.
هاتان الفئتان هما اللتان تطورتا لتصبح ما سيعرف ب ” النخبة الكولونيالية”، واتسمت بتدريبها على يد المستعمر لتصبح وريثة الكولونيالي, وهي الفئة التي حصلت في الغالب على التعليم من خلال لغة المستعمر, ثم حصلت على الفرصة للالتحاق بالجامعات الغربية. وهم من أطلقوا عليهم فيما بعد ب النخبة ” الأفريقية المثقفة”, كتاب ” المثقفون والسلطة في أفريقيا السوداء” ص ( 6).

بتعبير صريح، بعد تصفية الاستعمار, غالبية الحكّام, من طبقة منحدرة، من سلالة المتعاونين السابقين مع المستعمر، وتربّعوا على عرش الحكم واتجاهات الفكر, ونخبة من العبيد المُحررّين من أمريكا وتم إرسالهم إلى غرب أفريقيا ( حالة خاصة بليبيريا).
التساؤل المنطقي؛ أيتوقع منهم أن يثوروا على أولياء نعمتهم؟! ووفقا لبول اندا، اختيار المستعمر لهم, لم يكن على أساس الذكاء والكفاءة, بل المحفز الأول؛ كان الولاء والطاعة. هذا كان في غرب أفريقيا, بينما في شمال أفريقيا, أغلب النخبة الحاكمة والكوادر المثقفة ممن عرفوا بالطابور الخامس أو حزب فرنسا, من الطبقة التي تم تغريبها لدى المستعمر, أو تغربّوا طواعيةً، ومنهم المتفرج الذي لم يقاوم, ولم يسعىبخطوة لتصفية الكولونيالية من الأساس. هذا ما يفسّر أنهم بين مغترب فقد هويته الأفريقية, أو راضٍ بدور التبعية للسيد الغربي.

⁃لماذا لا يثور الفئة الباقية من المجتمع؟. الجواب: للبرمجة الأخلاقية الفعّالة واستراتيجية التغريب المنهجي.

كامل الإجابة عن هذا التساؤل تأتينا من المفكر الألماني، غونثر أندرس/Anders Günther، في كتابه “تقادم الجنس البشري”، ( L’obsolescence de l’’homme) ص (122) ، كيف وأد الغربي فكرة الثورة في المزاج الجماعي الأفريقي مسبقاً، وهذا الوأد، بنيان أساسي لمعرفة التطور التوافقي لدى الأفريقي: يقول غونثر

“تولى عهد أساليب هتلر المُنْقرض, ولم يَعدْ ضرورياً تبنّي العنف كوسيلة كفيلة لقمع التمرّد بشكل استباقي؛ حيث يكفي خلق تعبئة جماعية قويّة للحيلولة دون دخول حتى فكرة الثورة في عقول الرجال. والمنهج المثالي في ذلك هو برمجة الأفراد منذ الولادة عن طريق الحدّ من قدراتهم البيولوجية الفطرية ثم المضي قدما في القوْلبة من خلال تقليل التعليم واختزاله في شكلٍ من أشْكال التكامل المِهَني؛ علماً بأن الأفق الفكري لدى الأُميّ محدودٌ وكلما اقتصر تفكيره على الطموحات المتواضعة قلَّ تمرُّده. ويجب التأكد من عَرْقلة الوصول إلى المعرفة وحصرها على النخبة … وتوسيع الفجوة بين المواطنين وبين المعرفة والعلوم, ومن الضروري تَخْدير محتوى المعلومات المخصصة لعامة الناس, حتى تتَجرّد عن كل طابع تخريبي ( لمخططاتنا), لا سيما الفلسفة. عطفاً على ذلك, يَتعيّن استخدام الإقناع وليس العنف المباشر: ويجب أن نَبثّ على النطاق الواسع, عبر التلفزيون, الترفيه الذي دائمًا ما يرضي الجانب العاطفي أو الغريزي.
وسَنُشغِل العقول بما يُلهي ولا يُجدي نفعاً, حتى يصبح كل واحد بارعا في الجَدَل العقيم والموسيقى المستمر لمنع العقل من التفكير. عطفاً على سبق, من المُفضّل وضع الجنس في مقدمة الاهتمامات البشرية كمهدِّئ اجتماعي, فلا شيء أفضل من الجنس ( لتهدئتهم).
وبشكل عام, سَنحرص على إبعاد جدِّية الحياة وجَعل كل ما له قيمة عالية, تافهاً, ليشكِّل دائما مبرراً للحفاظ على الرذالة, وحتى تصبح نشوة الإعلانات معيار السعادة البشرية ونموذج الحرية؛ وعندئذٍ تنتج برمجة العقول هذا؛ التكامل بذاتها بحيث يكون الخوف الوحيد (الذي يجب الحفاظ عليه, من قبل الفرد) هو الإقصاء عن النظام وفقدان القدرة على الوصول إلى الشروط اللازمة للسعادة ( التي خلقناها) .
ومن الضروري أن يُعامل الفرد من عامة الناس من نِتاج هذا المنهج؛ معاملة العِجْل، ووجوب المراقبة عليه، على غرار مراقبة القطيع، وإبراز كلُّ ما يمكن طمس بصيرته كأمرٍ جيدٍ له اجتماعيًا، وبالمقابل, يجب أن نتعرض للسخرية والاختناق والمكافحة لكل ما من شأنه أن يهدد بإيقاظه (أي وعيه من سباته العميق). ويجب بالمقام الأول تصنيف أي عقيدة تشكك في النظام ( الذي صنعناه)على أنها عقيدةٌ تخريبية وإرهابية, مع وجوب التعامل مع من يدعمها بنفس المنظار. ومع ذلك، نلاحظ أنه من السهل جدًا رشوة شخص مُخرّب: كل ما عليك فعله هو توفير المال والسلطة له” في كتاب ” تقادم الجنس البشري” ص ( 122).

هكذا قتلوا روح التمرد والثورة في المثقف والنخبة الحاكمة سواء.

  • مالدرس للقارة الأفريقية واستراتيجية المقاومة؟ لا يمكن أن نحارب نظاما أو مؤسسة عملت لتحطيمنا لعقود من الزمن, دون أن نعرف خيوط اللعبة أفخاخ العدو, سبله في السيطرة على وعينا, وبما هندس تفكيرنا, و طرق استبداده لنا. كتب الأديب والمفكر اللبناني، ميخائيل نعيمة (1889-1988) ، يوماً،-” قبل أن تفكروا بالتخلّص من حاكمٍ مستبدٍ، تخلصّوا مما يستبدّ بكم من عادات سيئة، وتقاليد سوداء”.

أمام هذا الجبل من التخطيط لإخضاع شعوب العالم الثالث، الحلّ البسيط؟: هو: lex parsimoniae, هو مبدأ لاتيني مختصر لنمط تفكير فلسفي عميق. مفاده: حين يسبر المرء أغوار أعقد المشكلات ليبحث عن مخرج مثالي، في الغالب، يكون الخيار الأبسط هو الحل.

هكذا فعلت الهند, قبل استقلالها 15 أغسطس 1947, قامت مجموعة من المثقفين الهنود في 1931, من الذين أدركوا خطورة التغريب, على تأسيس مؤسسة الأفلام الهندية بوليوود ( Bollywood ), بعد 16 سنة تستقل الهند عن بريطانيا. أول ما فعل الهنود, الدخول في نزاع ثقافي بين الذين يمجدّون النمط وطريقة الحياة الغربية, مع الثقافة الهندية التقليدية, والقيم العائلية الهندية. فعملت بوليوود على انتاج أكبر أفلام تعظم الثقافة الهندية وتسخر من الهندي الذي تغرّب وترك أصالته للثقافة الانجليزية.
وفي تاريخ اليوم، تفوقت الهند على بريطانيا التي استعمرتها في:

  • الاقتصاد: الاقتصاد الهندي( 2940 مليار دولار)، بينما الاقتصاد البريطاني( 2800 مليار)
  • الثقافة: بوليوود الهندي تنتج أفلاما ذات طابع ثقافي بخمسة أضعاف الانتاج البريطاني.
  • صناعة التنكولوجيا: الهند في إنتاج التكنولوجيا الرقمية بالمرتبة 15, بينماالمملكة المتحدة في المرتبة 18.
    كل هذا التفوق على المستعمِر السابق من قبل الهنود، بنقلة سحرية واحدة؛ وهي العودة إلى الأصالة والهوية الهندية.

كأفارقة، يهدف خصمنا لتغريبنا, لزرع وعيٍ فينا يتناسب مع توقعاته. الحل الأبسط هو الرجوع للأصالة، العودة للهوية، هويتنا الثقافية، الاجتماعية، قيمنا المثلى، هذا التكتيك المعاكس على رغم بساطته من أصعب الحلول. بالذات في عالم تحاول شركة نيتفليكس الترويج الجنسي لبناتٍ دون ال13 من عمرهن.

الحل في مقاومة المثقف ( Intellectual resilience ” بالدفاع الجماعي عن الذات الأفريقي والهوية المشتركة, لا ننتظر الأجيال الصاعدة, فالحقيقة, نحن الجيل الذي كنّا ننتظره, اكتب كثيرا, واقرأ أكثر!

شاركنا رأيك

بريدك الإلكتروني مؤمن ولن يتم اظهاره للعلن.