المركز العراقي الافريقي للدراسات الاستراتيجية
الموقع الرسمي

انسحاب بوروندي من المحكمة الجنائية الدولية “الأسباب والتداعيات”

0

تمهيد :

   كانــت الــدول الأفريقيــة هــي الأكثــر دعمـًـا لفكرة إنشــاء محكمــة جنائيــة دوليــة، وذلـك للحـد مـن الانتهـاكات المرتبطـة بالصراعـات المسـلحة التـي تشــهدها القــارة. ومنذ تأسيس المحكمة وبعد دخولها حيز النفاذ عام 2002، والدول الأفريقية تلعب دوراً أساسياً في ترسيخ نظـام رومـا الأساسـي. وأصبحت 33 دولة أفريقية طرفاً في هذا النظام. ومنذ عام 2008 ومع التهم التي وجهتها المحكمة لرؤساء أفارقة بدأت العديـد مـن الـدول الأفريقيـة تنظر إلـى المحكمـة باعتبارهـا آلية غير عادلــة ووســيلة لممارســة الضغـوط وتدخل الـدول الكبـرى فـي شـئون القـارة، وتصاعـدت الأصوات المنادية بضـرورة الانسـحاب.

     وفي هذا الإطار يسعي هذا التحليل إلى تناول نبذة عن التوتر بين المحكمة الجنائية الدولية والدول الأفريقية، فضلاً عن تحليل الانسحاب الرسمي لدولة بروندي وما يترتب على هذا الانسحاب. 

أولاً: اضطراب العلاقة بين الدول الأفريقية والمحكمة الجنائية الدولية:

     توترت العلاقة بين الدول الأفريقية والمحكمة الجنائية الدولية منذ عام 2008 عقب التهم التي وجهتها المحكمة لرؤساء أفارقة وصدور مذكرة توقيف للرئيــس الســوداني عمــر البشــير في مارس 2009 وذلك بتهم ارتكاب جرائم حرب في دارفور، كما ثم اتهام الرئيـس الكينـي أوهــورو كينياتـا بارتكاب انتهاكات فترة الانتخابات الرئاسية عام 2007 وتمثيله أمام المحكمة في مارس 2013 ,  وقد حاول الاتحاد الأفريقي إرجاء التحقيق الخاص باعتقال البشير بموجب المادة (16) من النظام الأساسي لروما، ولكن هذا المسعي لم يكتب له النجاح، فاتخذت الدول الأفريقية عدد من الخطوات التصعيدية، أبرزها:

1. توجيه اتهامات للمحكمة بممارسة العدالة الانتقائية وإزدواجية المعايير : في ضوء وجود العديد مــن الحالات خــارج القــارة الأفريقيــة لــم يوجــد للمحكمــة أي دور فــي معاقبــة مرتكبــيها رغم أنها تدخـل فـي اختصـاصها الموضوعــي ومنها الانتهــاكات التــي تحــدث فى سـوريا و أوكرانيـا والجرائم الإسرائيلية في فلسطين. فضلاً عن تجنبها الدول الكبري، ورفــض المحكمــة النظـر فـي قضيـة تتعلـق بجرائـم حـرب ارتكبتهـا بريطانيا فــي العــراق بيــن عامــي 2003 و2008، إضافة إلي دور مجلس الأمن في إحالة أو إرجاء قضايا للمحكمة رغم عدم توقيع ثلاثة دول أعضاء دائمين بالمجلس (الصين- روسيا- الولايات المتحدة الأمريكية) علي نظام روما الأساسي.

2. عـدم التعـاون مـع المحكمـة فيمـا يتعلـق بتوقيـف البشـير : وظهر ذلك في الزيارات العديدة التي قام بها الرئيس البشير عقب قرار الاعتقال لعدد من الدول الأفريقية الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية ولم يتم القبض عليه وأبرزها (تشاد، جيبوتي، جنوب أفريقيا، أوغندا) .

3. الاتجاه إلى مؤسسات بديلة : حيث قام الاتحــاد الأفريقــي بإعــداد مسـودة البروتوكـول الخـاص بتعديلات النظـام الأساسـي لمحكمة العــدل وحقــوق الإنســان الأفريقيــة لتتضمــن توســيعًا لنطاق الولايـة القضائيـة للمحكمـة، بحيـث تشـمل الانتهـاكات الخطيـرة لحقوق الإنسان، وذلـك لإعاقـة المحكمـة الدوليـة ممارسـة اختصاصهـا القضائـي فـي أفريقيـا  .

4. طرح فكرة الانسحاب الجماعي : حيث تصاعدت الدعوات داخل الاتحاد الأفريقي بالانسحاب الجماعي من المحكمة. وهددت حكومات دول (كينيا، ناميبيا) بالانسحاب، وأعلنت ثلاثة دول عزمها علي الانسحاب (جنوب أفريقيا، بوروندي، غامبيا). وبدأ بعضها عملياً الإجراءات المتعلقة بذلك حيث قدمت جنوب أفريقيا إشعار للأمم المتحدة بالانسحاب في عام 2010، ولكن تم إلغائه عقب صدور قرار بطلان وعدم دستورية قرار الانسحاب لأنه تم بدون التشاور مع البرلمان. وفي غامبيا أعلنت الحكومة في أكتوبر 2016 الانسحاب ولكن مع تغير الحكومة تم إلغاء القرار في فبراير 2017، وتم إدماج نظام روما الأساسي في القانون الوطني. أما بوروندي فأصبحت الدولة الطرف الأولي التي انسحبت من نظام روما الأساسي في أكتوبر 2017.

ثانياً : انسحاب بوروندي والآثار المترتبة علي هذا الانسحاب:

1. الأساس القانوني للانسحاب :

حددت المادة 127 من نظام روما الأساسي الإجراءات الخاصة بالانسحاب:

– نصت الفقرة الأولي على ضرورة إخطار الأمين العام للأمم المتحدة (كتابياً): “لأية دولة طرف أن تنسحب من هذا النظام الأساسي بموجب إخطار كتابي يُوجّه إلى الأمين العام للأمم المتحدة. ويصبح هذا الانسحاب نافذا بعد سنة واحدة من تاريخ تسلم الإخطار، ما لم يحدد الإخطار تاريخًا لاحًقا لذلك”.

– ونصت الفقرة الثانية على التزامات الدول في حالة الانسحاب: “ولا تُعفى الدولة، بسبب انسحابها، من الالتزامات التي نشأت عن هذا النظام الأساسي أثناء كونها طرفا فيه، بما في ذلك أي التزامات مالية قد تكون مستحقة عليها. ولا يؤثر انسحاب الدولة على أي تعاون مع المحكمة فيما يتصل بالتحقيقات والإجراءات الجنائية التي كان على الدولة المنسحبة واجب التعاون بشأنها والتي كانت قد بدأت قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذًا، ولا يمس على أي نحو مواصلة النظر في أي مسألة كانت قيد نظر المحكمة بالفعل قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب نافذًا”

2. انسحاب بوروندي وملابسات القضية التي تباشر المحكمة التحقيق فيها:

    صوت البرلمان بتاريخ 12 أكتوبر2016 بأغلبية الأصوات على مشروع قانون يسمح بالانسحاب من المحكمة، واعتمد بدوره مجلس الشيوخ (بالاجماع) هذا المشروع. وقام رئيس الجمهورية من جهته بإصدار هذا القانون. ولكن لم يتم توجيه إخطار كتابي للأمم المتحدة” ، وهذا يعني أن المحكمة تمارس اختصاصها فيما يتعلق بالجرائم التي يمكن أن ترتكب في بوروندي طالما لم يتم إخطار الأمين العام بالانسحاب. وفي 27 أكتوبر 2017 أصبح الانسحاب ساريًا (بعد عام من إيداع الإعلان الرسمي بالانسحاب للأمم المتحدة) ويعني ذلك احتفاظ المحكمة بالولاية القضائية على أي جريمة تدخل في نطاق اختصاصها من اللحظة التي دخل فيها نظام روما الأساسي حيز التنفيذ بالنسبة لبوروندي (1ديسمبر 2004) حتى نهاية الفترة الفاصلة (التي مدتها عام واحد) منذ الإخطار بالانسحاب (26 أكتوبر 2017) .

    وفقاً لما سبق، يجوز للمحكمة أن تمارس اختصاصها حتى بعد أن يصبح الانسحاب ساريًا طالما أن التحقيق أو الملاحقة القضائية تتعلق بالجرائم المزعومة التي ارتكبت خلال الفترة التي كانت فيها بوروندي دولة طرف في نظام روما الأساسي. وهذا يفسر إعلان المحكمة الجنائية الدولية عن الفحص الأولي للوضع في بوروندي في 25 أبريل 2016 بعد اتهامها بارتكاب الجرائم ضد الإنسانية، ثم شروعها بالتحقيق منذ 25 أكتوبر2017 في جرائم (القتل- الشروع في القتل- السجن- الحرمان الشديد من الحرية- التعذيب- الاغتصاب- الاختفاء القسري- الاضطهاد) التي ارتُكبت داخل بوروندي في الفترة من 26 أبريل 2015 وحتي 26 أكتوبر 2017.

وفي ضوء المواد الداعمة التي قدمها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وجدت المحكمة في قرارها بالسماح بإجراء تحقيق في الجرائم التي ارتكبت في بوروندي، أساساً معقولاً للتحقيق في الهجوم العنيف الذي شنته الجماعات التابعة للدولة (الشرطة الوطنية البوروندية، جهاز المخابرات الوطنية، وحدات الجيش البوروندي، عناصر الإيمبونراكيو ضد المعارضة السياسية والمجتمع المدني لاحتجاجهم على ترشيح الرئيس “بيير نكورونزيزا” لولاية ثالثة في أبريل 2015. وهو الهجوم الذي أدي إلى قتل 1200 شخص، واحتجاز الآلاف بشكل غير قانوني، وتعرض الآلاف للتعذيب، واختفاء المئات، ونزوح 490 شخصًا في الفترة من أبريل 2015 إلى مايو 2017.

3. الالتزامات القانونية على بوروندي بعد الانسحاب:  

يقع على بوروندي (بمقتضي المادة 86) واجب التعاون مع المحكمة لغرض التحقيق في القضية المذكورة منذ أن أُذن بالتحقيق في 25 أكتوبر 2017 (قبل التاريخ الذي أصبح فيه الانسحاب ساريًا بالنسبة لبوروندي) . ولكن في حال فشل دولة ما في التعاون، فليس هناك بند ينص على معاقبتها والطريق الوحيد الذي يمكن أن تلجأ إليه المحكمة بمقتضي المادة 87 (الفقرتان 5 ،7)، أن بإمكانها إشعار مجلس جمعية الدول الأطراف (التي لا سلطة لها بمعاقبة دولة ما)، أو في حالة إحالة مجلس الأمن القضية إلى المحكمة، فبإمكانها إشعار مجلس الأمن برفض دولة التعاون.

وفي الختام : من المفترض أن تلتزم بوروندي بالتعاون مع المحكمة في القضية محل التحقيق ولكن لا توجد مؤشرات واضحة تدل على رغبة الحكومة البوروندية بالتعاون في ظل عدم استقبالها للجنة الخبراء من الأمم المتحدة ووقفها التعاون مع المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ولايوجد نص على معاقبتها في حالة عدم التعاون كما سبق توضيحه.

 

شاركنا رأيك

بريدك الإلكتروني مؤمن ولن يتم اظهاره للعلن.