روح الإسلام..تحليل مفهوم الكرامة للإنسان
روح الإسلام
تتمثل في المسوغات المعيارية النهائية التي منها تستمد التشريعات الإسلامية صلاحيتها، ولا يتصور تناقض التشريعات معها، بمعنى آخر هي النواة السيمانتية للإسلام التي بها نعرف مدى انتماء تشريع ما إلى الإسلام.
وأولى هذه المسوغات المعيارية هي: تجسيد كرامة الإنسان:
بسم الله الرحمان الرحيم "ولقدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً"سورة الإسراء
وهذا التكريم تحقق في: ١- الإفضال بالعقل المفكر، ٢- الإرادة الحرة، ٣- الأمن النفسي والبدني والغذائي.
وبما أن الكرامة مفهوم معياري، فإن ما نحتاجه عند دراستها هو السند الفلسفي والمنطقي اكثر من السند العاطفي الذي يتمثل في النصوص المقدسة والاعتبارات السياسية والاجتماعية والتاريخية، التي لا تعطينا إلا مقطع بسيط من الصورة الكاملة للحقيقية، لذا فدراستنا هذه للكرامة قد تختلف عن الدراسات الأخرى التي تتناول الموضوع بالعقل الإسلامي المحض أو في نطاق ظروف خاصة التي غالبا ما تفقد الموضوعية؛ حيث إننا في هذه الدراسات سنركز على الجانب الفلسفي لمفهوم الكرامة، ثم من خلال المفهوم نرصد المعايير الأساسية التي تحكم المفهوم لتحديده تحديدا دقيقا، فبالتالي تناول القضايا المنطقية التي يشملها كل معيار من معايير المفهوم، وعلاقة كل منها بالآخر، وفي النهائية نحاكم النصوص الإسلامية ،محل دراستنا، أمام تلك المعايير؛ لبرهنة مدى توافقها معها.
وقبل توضيح مفهوم الكرامة، يجب التبيين أن طبيعة معيارية المفهوم هي التي تفرض الأخذ بالمفهوم الفلسفي له، بدلا من المفهوم الديني أو التجريبي؛ لأن المعيار أيا كان يحتاج إلى مسوغ آخر خارج إطاره ليسوغه ويعطيه صفة الاستقرار والقبول العام الجمعي، وهذا لا يتصور أن تمثله النصوص الدينية المتمثلة في المعرفة الدينية، لاعتبارات عدة، منها: أن النصوص الدينية لكي تتمتع بالقبول لابد أن تضمن لنفسها توافر هذا المعايير بصفة خاصة والمعايير الأخرى، و إذا كان الدين يحتاج إلى هذا المعيار لإثبات جدواه، فكيف يكون هو المسوغ، مع أن فاقد الشيء لا يعطيه.
ومما يجعلنا أيضا نعتقد بأن الدين والتجربة لا يتصور أن يكونا المسوغ لهذا المعيار خصوصا والأخرى عموما، هو أن كلا منهما تتباين وتختلف خلفياته ومبرراته حسب الزمان والمكان والجماعة، لنضرب أمثلة لذلك في أي موضوع ديني على سبيل المثال: الحجاب أو الخمر أو تحريم وإجازة بعض الطيبات، نجد أن بعض الأديان يعتبر هذه الأشياء داخلا في إطار كرامة الإنسان، بينما نجد بعض الأديان يعتبرها عكس ذلك. ومن الناحية التجريبية العملية نجد أن التكنولوجية النووية عند اختراعها كانت تحقق غرضا إنسانيا الذي كان له دورا مهما في تحقيق الكرامة للإنسان، أما الآن لقد تطور الاستخدام ليشمل الجانب الحربي؛ وأصبحت تمثل أكبر تهديدا للإنسان وكرامته، وهكذا دواليك… ولو لاحظنا هذه الأمثلة نجد أن كلها لا تتوافر فيها صفة الاستقرار والقبول العام الجمعي؛ فبالتالي لا يتصور أن يكون المعرفة الدينية أو العملية مسوغة لمعيار الكرامة خصوصا والمعايير الأخرى عموما.
وبإقرارنا بأن النصوص المقدسة المتمثلة في المعرفة الدينية، كذلك والتجربة المتمثلة في المعرفة العملية لا يستطيعا ان يكونا المسوغ لمعايير ومعيار الكرامة خصوصا؛ فلن يبق سوى الجانب الفلسفي المنطقي الذي يهتم بدراسة ما إذا كانت قضية ما صادقة أو غير صادقة، وكذلك ما إذا كانت ضرورية او ممكنة.
وإذ كان المعيار يكتسب صفتا الاستقرار والقبول العام الجمعي من قبل المسوغ، فهذا يعني أن المعيار لا يمكن أن يكون إلا قضية ضرورية، والقضية الضرورية لا يتصور منها إلا الصدق والثبات، ثم إن الجانب الذي يهتم بدراسة تلك القضايا هو الفلسفة والمنطق؛ فبهذا، فالمسوغ الوحيد لأي معيار وخصوصا معيار الكرامة، الذي يهمنا في هذه المقالة، هو المنطق والفلسفة؛ فبالتالي لا مفر من تناول مفهوم الكرامة الإنسان من الناحية الفلسفية الأبستمولوجيا.
بعد هذه المقدمات الضرورية، يمكننا تناول مفهوم الكرامة فلسفيا، ببساطة، بأنها (تحقق مجموعة القيم الغائية على الإنسان والفرد، والتي تحقق له آدميته وتعطي حياته على الأرض ميزة إيجابية) ويتحتم لتحليل هذا المفهوم بيان الغرض، والمعايير، والفرق بينهما، كذلك والفرق بين المعايير والوسائل والصور المشابهة بها والمرتبطة بها.
تحليل مفهوم الكرامة للإنسان
إن مفهوم الكرامة شأنه شأن المفاهيم الأخرى حيث يوضح كل منها الغرض الكلي للمفهوم والذي لا يمكن التوصل إليه إلا من خلال السمات الأساسية والنهائية التي منها تتفرع السمات الأخرى الفرعية والمظاهر الشكلية للمفهوم، وبدون إدراك تلك السمات الأساسية، لا يضمن التصور الدقيق للمفهوم المراد توضيحه، لأن السمات الفرعية لا تعطينا إلا مظاهر وأشكال للمفهوم تفرضها اعتبارات موضوعية معينة ؛ فبالتالي لا يمكن وضع مفهوم ما بالاعتماد على مظهر من مظاهره المتعددة، وإلا يكون المفهوم غير دقيق، لنضرب مثلا في الديموقراطية، فإنها تأخذ أشكال ومظاهر متباينة تختلف من بلد لآخر، ومن مجتمع لمجتمع، حسب خصائصه، بعضه يأخذ النظام الديمقراطي التمثيلي، وبعض الآخر يعتمد على النظام الديمقراطي المباشر، وربما تبدي لنا الأيام أنظمة ديمقراطية أخرى، وهكذا؛ إذن لا يمكن، إطلاقا، فهم الديموقراطية بالاستناد على اشكالها المختلفة، من هنا يجب طرح سؤالا معياريا وهو: ما الذي يجعلنا نستطيع ان نحكم إذا كان هذا النظام ديموقراطيا أو غير ديموقراطيا؟ فهذا السؤال هو الذي يوصلنا إلى السمات الأساسية للديمقراطية والتي يعتمد عليها للحكم بديموقراطية أي نظام، وهذه السمات هي المشاركة السياسية لأفراد المجتمع، وعدم التمييز الجنسي أو العرقي أو العقدي أو الطائفي في ذلك، بهذين السمتين نستطيع ان نحكم بالنظام الذي لا يتمتع بعض من افراد المجتمع بالمشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية وفي الحياة السياسية، سواء أكانت انتخابا أوغيره، بانه غير ديموقراطي، ولو ادعى ذلك، وبإدراك هاتين السمتين الأساسيتين نستطيع إعطاء الديموقراطية تصورا وفهما دقيقا، وهو حكم الشعب بالشعب للشعب، وهو الغرض الكلي للمفهوم.
ونفس المنهج يمكن اتباعه في توضيح مفهوم الكرامة للإنسان، فقبل أن يكون شخص ما صورة ذهنية واضحة للكرامة، او حتى بعد تكوينها، تتبادر في ذهنه بعض الاشياء يحسبها في الوهلة الاولى أنها تحقق الكرامة أو أنها تمثل الإطار العام لكرامة الإنسان، مثل أكل وشرب معين، وعمل معين ، لباس معينة، امتلاك المال او مسكن معين، مظهر معين، علاقات معينة، تصرف معين، الشهرة، المكانة، وغيرها….مما يمكن تصوره، غير ان كل هذه الأشياء والسمات، إن أمعنا النظر، لا يمكن أن تكون في الحقيقة إلا مظاهر من مظاهر الكرامة، وأشكال من أشكالها المتعددة؛ فأكل أو شرب أو مظهر معين يرتبط كلا منها بالذوق والثقافة، وتختلف الذوق والثقافة من قوم لقوم، ومن مجتمع لآخر، ومن زمن لزمن، ومن شخص لآخر، ومن حالة لأخرى؛ فيفتقد بالتالي كل منها الاستقرار والقبول الجمعي اللذان يعتبران شرطان لمعيارية سمة ما، وإن قلت لي بأن الاكل والشرب بصفة عامة هو السمة المعيارية ، وليس اكل وشرب معين، نرد بان ذلك غير مسوغ أيضا؛ حيث أن الإنسان قد يسد رمقه بأكل و شرب لا تحققان شيئا من كرامة الشخص.
أما السمة التالية، وهي بناء علاقة معينة، ترتبط بمصلحة او مصالح ما، وبما انها تبنى لتحقيق مصالح ما، فإنها ليست هدفا بذاتها، بل هي وسيلة لغرض أسمى، ومن سيمة الوسيلة التغيير والتنوع، بالإضافة إلى أنه ليس من الضرورة أن تلبي الوسيلة دوما الغرض النهائي؛ لذا لا يتصور أن تكون العلاقة سمة معيارية أساسية للمفهوم. وما يستدل به في العلاقة يستدل به في سمة امتلاك المال او مسكن معين.
وعند النظر إلى سمة الشهرة والمكانة والتصرف، يلزم علينا تفرقة بين الشهرة السلبية والإيجابية، كذلك المكانة الدنيئة والمرموقة، كما يجب التفرقة بين التصرف المذموم والمحمود؛ ووجه امتناع تصور معيارية الشهرة السلبية والمكانة الدنيئة، وأيضا التصرف المذموم واضح؛ حيث إن كلا منها لا ينفك عن دور وممارسة مرفوضة وغير مقبولة من قبل افراد المجتمع او البيئة، فبالتالي رفض الأشخاص الممارسين للدور نفسه، وهذا بالتأكيد ينعكس على قيمهم، ثم في كرامتهم. وفيما يخص الشهرة الإيجابية والمكانة المرموقة، كذلك التصرف المحمود، فهما عكس الشهرة السلبية والمكانة الدنيئة والتصرف المذموم؛ حيث يرتبط كل منها بالدور أو الممارسة المهمة والمقبولة لدى أفراد المجتمع أو البيئة؛ فبالتالي تقديرهم لهؤلاء الذين يمارسون نفس الممارسات والأدوار، وإعطائهم قيمة خاصة؛ فينعكس بالتأكيد على كرامتهم، لكن الإشكالية هنا واقعة في أن هذه الممارسات والأدوار المهمة في مجتمع ما وعند جماعة ما قد تكون على درجة أقل من الأهمية في مجتمع آخر أو جماعة أخرى، وقد لا تعطى الأهمية أصلا، فيكون أصحاب تصرف ما أو الشهرة أو المكانة في مجتمع ما، لا يتمتعون بنفس السمات في مجتمع آخر؛ فيفقدون قيمتهم فيه، وبالتالي تنقص أو تتجزأ كرامتهم، في حين أن السمة المعيارية لا تقبل التجزئة الزمانية أو المكانية، وحتى وإن افترضنا جدلا ، وسلمنا بأن الممارسات أو الأدوار قد تكون مقبولة في جميع المجتمعات والجماعات وفي جميع الأزمان، فهذا لا يمكن ان يجعل التصرف او الشهرة او المكانة؛ وذلك لأن كون كل منها سمة أساسية للكرامة يعني أن من لم يتوافر فيه سمة من هذه السمات لا يتحقق فيه الكرامة، وهذا تصور غير متماسك منطقيا ولا يقبل واقعيا.
فإذا كنا بهذه الاستدلالات قد أثبتنا بأن كل تلك الأشياء التي سبق ذكرها لا يمكن أن تكون إلا مظاهر وأشكالا للكرامة، ولا يمكن أن يعتمد عليها في الحكم على مدى تحقق الكرامة لدى الإنسان، وإذا كان الامر كذلك، يتبادر في الأذهان سؤالا معياريا وهو: ما هي السمات الأساسية التي إذا توافرت على الشخص يحكم بأن إنسانيته وآدميته قد تحققت؟ وإجابة هذا السؤال يلزم البحث عن الهدف الذي يسعى الفرد لتحقيقه وراء كل حركاته في الحياة، والذي لا يخرج عن هدف واحد وهو البقاء، وهذا الهدف له عدة لوازم أساسية تتسم بالاستقرار والقبول الجمعي العام، واولى تلك اللوازم هي قوة البنية الجسدية، والتوازن الداخلي ، وهذا يتحقق بقيام أعضاء الجسم بوظائفها، وعدم تمثل ما يهدد ذلك، وهو ما يمكن تعبيره بـ”الأمن الجسدي والنفسي” بما فيه الامن الغذائي، ولضمان تحقق اللازم الأول لابد من إيجاد تقنيات ووسائل ونظم وتنظيمات وتشريعات ومعارف وغيرها، وهذه تتم بواسطة لازم آخر له نفس صفات اللازم الأول وهو “العقل المفكر” وهذا العقل المفكر لا يؤدي وظائفه كاملا إلا إذا توفر جو يسمح له بالاختيار بين البدائل الممكنة دون قيود ، وهو ما نصطلح عليه بـ” الإرادة الحرة” وهو اللازم الأخير.
إذن فالمعيار الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها للحكم بتحقق إنسانية الإنسان وآدميته هي الأمن الجسمي والنفسي ويدخل فيه الامن الغذائي، ثم العقل المفكر، فالإرادة الحرة، وهذه السمات المعيارية الثلاثة متماسكة ومتكاملة، لا تنقص منها واحدة إلا وينعكس على درجة الكرامة.
بهذا التحليل المفصل للكرامة، وبيان النواة الأساسية لتحققها وأمثلة من مظاهرها المتعددة يمكننا في النهاية وضع تصور كامل دقيق وواضح لمفهوم الكرامة للإنسان بأنها” تحقق مجموعة القيم الغائية على الإنسان أو الفرد، والتي تحقق آدميته وتعطي حياته على الارض ميزة إيجابية”.