مفهوم الديمقراطية عند ألبير كامو
صحيحٌ أن «الديمقراطية» هي كلمة واحدة لكنها كمفهوم تتسع تعريفاته وتتباين وتتشعب بحسب قراءات المفكرين والمتخصصين وبحسب صيرورة التأريخ وثقافات الشعوب وتطورها. واليوم ونحن في العراق إذ نضع خطواتنا الأولى على درب الديمقراطية الطويل والشاق ما أحوجنا أن نعود إلى الوراء قليلا لنستفيد من تجارب الشعوب التي عانت قبلنا الكثير حتى توطدت فيها الديمقراطية ووصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من مراحل متقدمة تثير الإعجاب.
هذه فرنسا التي خرجت من الاحتلال الألماني بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مرت بظروف تشبه إلى حد ما الظروف التي يمر بها العراق اليوم وهو يخرج من الاحتلال الأمريكي. فكيف نظر مفكرو فرنسا إلى وضع بلادهم وسياسيوها آنذاك؟ لنرى كيف حاول الكاتب والمفكر المعروف البير كامو وفي مقالة نادرة أن يجد تعريفا شافيا للديمقراطية في بلاده بعد التحرير وهي تدخل أزمة سياسية جديدة متمثلة في صراع قوى اليمين واليسار وعدم اتفاق هذه القوى وعدم تواضعها واعتدالها وعدم تضحيتها من اجل إيجاد مخرج اعتدالي موحد يساهم في وضع حلول عاجلة للازمات الاجتماعية التي كانت في ذروتها آنذاك.
ُيعد الكاتب الفرنسي الكبير البير كامو (1913-1960) أكثر الكتاب الفرنسيين شهرة في القرن العشرين، فرواياته (الغريب 1942)، و(الطاعون 1947) هي من الروايات المقروءة جداً، ولكن كامو ليس روائياً فقط بل كتب الكثير من المقالات حلل فيها المشاكل السياسية والأيديولوجية لعصره وحدد موقفه منها وهذا ما فعله في مقالته التالية التي نُشرت عام 1948 في صحيفة كاليبان Caliban.
في ذلك الحين كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت للتو أوزارها، وبعد أن عانى الفرنسيون خمسة أعوام من الاحتلال الألماني بدأوا يتطلعون إلى ما ستؤول إليه فرنسا المحررة، وقد بدا لهم بأن اللعبة السياسية قد تغيرت وباتوا يرنون إلى ديمقراطية حقيقية. أصبحت كل الآمال على وشك التحقيق، الحرية والعدالة ستتحولان إلى واقع. لكن في عام 1948 حلت خيبة الأمل، فقوى اليمين لا ترغب في تغيير سياســي واجتماعي حقيقي، أما الشيوعيون فلم يشغلهم إلا مناهضة الرأسماليين ويعتقدون إن في ذلك يكمن الحل الأساس لكل المشاكل. وفي هذه المقالة حول الديمقراطية يطرح كامو وبأسلوبه الفلسفي والجدلي المعروف الأسباب التي جعلته يعارض مختلف الاتجاهات و جعلته يبحث عن تعريف الديمقراطي الحقيقي و يحدد مواصفاته. ولنجعل من أفكار كامو الفلسفية والواقعية هذه رسالة موجهه إلى السياسيين والمفكرين والمثقفين العراقيين والى كل من يهمه أمر إنجاح الديمقراطية الناشئة في العراق وإنقاذ هذا البلد من تخبط القوى السياسية والتيارات المتصارعة فيه.
«الديمقراطية ممارسة التواضع والاعتدال»
يقول البير كامو: لأنه لا يوجد موضوع برأيي أهم من موضوع الديمقراطية فأنني دائم التفكير فيه وكثيراً ما يحصل ذلك وأنا استقل المترو. نحن نعلم بأن غموضاً ما يكتنف هذا المفهوم المهم، ولأنني أحب كثيراً أن أناقش هذا الموضوع مع أكبر عدد ممكن من الناس فأنني في الوقت نفسه ابحث عن تعريفات ملائمة ومقبولة لأقدمها لهؤلاء الناس. لكن هذا ليس عملاً سهلاً ولا ازعم بأني نجحت تماماً في هذا المسعى، ولكن يبدو لي أني توصلت إلى بعض المفاهيم التقريبية النافعة، ولكي أكون موجزاً، هذا واحد من هذه المفاهيم:
«إن الديمقراطية هي الممارسة الاجتماعية والسياسية للتواضع و الاعتدال»
وهنا عليّ أن أشرح ذلك: في الحقيقة هناك نوعان من المفاهيم المضادة (للديمقراطية)، (مثلما يتوجب علينا توضيح كل شيء دعونا نطلق صفة “المضاد” على كل موقف يهدف إلى التكريس المستمر للتبعية والعبودية السياسية والاقتصادية التي تثقل كاهل الناس). هذان المفهومان يسيران في اتجاهين متضادين ولكنهما يشتركان في التعبير عن حقيقة مطلقة.
المفهوم المضاد الأول يقول: «لا يمكننا تغيير الناس»، ويخلص إلى القول بأن الحروب حتمية وان العبودية الاجتماعية موجودة في طبيعة الأشياء شئنا أم أبينا، فلنترك لحملة السلاح عملية إطلاق النار ولنعتن بحدائقنا المنزلية (والحقيقة يلوح لي أن كامو إنما يقصد بالحدائق المنزلية هو المصالح الخاصة. ففي المسرحية الهجائية الاجتماعية لفولتير«كانديد» عام 1759 يقترح البطل في نهاية المسرحية أن لا يشغل نفسه ولا يعتني إلا بأموره الخاصة فقط وبقي في منزله يعتني بحديقته المنزلية ، و هنا يرى كامو إن الأغنياء وأصحاب الأملاك عندما يساندون هذا الرأي إنما يحاولون الابتعاد عن المواقف السياسية المساندة للديمقراطية حفاظاً على مصالحهم الشخصية النفعية الخاصة وان تعارضت مع المصالحة العامة للشعب، وهذا شديد الشبه لما يجري في العراق اليوم من تمسك بعض الأحزاب و الكتل و الشخصيات السياسية بمصالحها الفئوية الضيقة على حساب المصالح العليا للبلاد حتى وان سارت البلاد نحو الهاوية لا سامح الله).
يضيف كامو: أما المفهوم المضاد الثاني فيقول: «إن تغيير الناس وتحريرهم ممكن ولكنه يعتمد على مبدأ معين (كحزب أو أيديولوجيا معينة أو أي تكتل آخر) وعليهم أن يتحركوا وفق نهج معين وبثبات كي يحصلوا على النجاح»، إذن نستطيع أن نستنتج من ذلك بأنه من البديهي قمع هؤلاء:
1- الذين لا يرون بأن هناك تغيير ممكن.
2- الذين لا يتفقون مع هذا المبدأ أصلا.
3- الذين يتفقون مع هذا المبدأ ولكنهم يعترضون على وسائل تعديله.
4- وبشكل عام كل أولئك الذين يرون بأن الأشياء ليست سهلة كما ينبغي.
وبالنتيجة نحصل على محصلة تعادل ثلاثة أرباع الناس!
في كلتا الحالتين نجد أنفسنا أمام تبسيط متعمد للمسألة. في الحالتين هناك محاولة إدخال للترسيخ وللحتمية المطلقة في الواقع الاجتماعي، لكن لا هذا الترسيخ ولا هذه الحتمية المطلقة يمكن لهما أن يجدا طريقهما في الواقع الاجتماعي كما ينبغي. في كلتا الحالتين يشعر المرء بقناعة تامة أما بصنع التاريخ أو بجعل التاريخ يصنع نفسه وفقا لهذه المبادئ، أو يشعر بقناعة تامة لتبرير الألم الإنساني أو لتعميق هذا الألم. هذه الأفكار المختلفة جداً والتي تنصب قناعتها كذلك على محاربة تعاسة الآخرين لا يهمني إن كانت تستحق الإعجاب. ولكن يجب علينا على الأقل أن نسميها بمسمياتها وان نتحدث عما تستطيع أو لا تستطيع فعله. أنا أرى إن هذه الأفكار هي أفكار غرور، فهي ربما تتمكن من الوصول لأي شيء لكن لا يمكن لها الوصول إلى التحرر الإنساني وإلى الديمقراطية الحقيقية. هناك كلمة لسيمون ويل Simone Weil كانت شجاعة في طرحها ولها الحق في طرحها سواء في حياتها أو بعد مماتها تقول سيمون ويل:(من هذا الذي يمكن له أن يُعجب بالإسكندر الأكبر من كل قلبه إن لم تكن نفسه وضيعة)، نعم فمن يستطيع أن يضع في كفة واحدة الاكتشافات الكبيرة للعقل البشري والغزوات الكبيرة للقوة وما تسببه من معاناة كبيرة للبشر، إن لم يكن قلبه أعمى تجاه ابسط عاطفة وعقله بعيد عن كل عدالة.
لذلك يبدو لي أن الديمقراطية سواء كانت اجتماعية أم سياسية لا يمكن لها أن تتأسس على فلسفة سياسية تدعي معرفة كل شيء والقدرة على تنظيم كل شيء، مثلما لم تستطع أن تتأسس لحد الآن على الأخلاق المحافظة المطلقة. فالديمقراطية ليست أفضل الأنظمة ولكنها الأقل سوءاً؛ فنحن جربنا تقريباً كل الأنظمة وعرفنا ذلك. لكن النظام الديمقراطي غير مُصمم ولا مُكتشف ولا مسنود إلا من قبل أناس لا يدَعون بأنهم يعرفون كل شيء وأنهم يرفضون الوضع البروليتاري ولا يرضون أبداً عن بؤس الآخرين، ويرفضون تعميق هذا البؤس باسم نظرية ما، أو باسم نهج ديني عقيم.
إن رجعية النظام القديم كانت تدَعي بأن العقل لا يمكن له حل أي شيء، أما رجعية النظام الجديد فأنها ترى بأن العقل يحل كل شيء، أما الديمقراطي الحقيقي فأنه يرى بأن العقل قادر على معالجة عدد كبير من المشاكل ويستطيع إن يحل منها الكثير لكنه لا يعتقد بأن سلطة العقل يجب أن تحكم العالم كله كسلطة متقيدة ومتفردة. وبالنتيجة فأن الديمقراطي هو إنسان معتدل ومتواضع، فهو يعترف بجانب عدم المعرفة عنده وبجانب بعض المغامرة في أنشطته ويعترف بأنه لم ُيؤتى العلم كله، وانطلاقاً من هذا الاعتراف فأن الديمقراطي يجد انه بحاجة دائمة لاستشارة الآخرين وإن يُكمل ما عنده من معرفة بما عند الآخرين من معرفة. ولا يجد عنده من سلطة إلا بقدر ما يفوضه الآخرون بها واتفاقهم حولها. وأي قرار يريد أن يتخذه بشأن الآخرين يعرف أن الآخرين من الممكن أن ينظروا إليه بشكل مختلف ويمكن أن يعدلوا من هذا القرار. وبما إن النقابات وجدت للدفاع عن حقوق العمال فالديمقراطي يعلم بأن أعضاء النقابات وبمداولة آرائهم لهم كل الحق في تبني النهج الأفضل.
الديمقراطية الحقيقية ترجع دائماً إلى الجماهير لأنها تفترض بأنه لا توجد حقيقة مطلقة في نظامها وبأن الكثير من تجارب الشعب المتراكمة تمثل مقتربات من الحقيقة وهي أكثر دقة من مذهب متماسك لكنه مزيف. فالديمقراطية لا تدافع عن فكرة مجردة ولا عن فلسفة متألقة بل هي تدافع عن الناس الديمقراطيين وتدعوهم لاستخدام وسائلهم الخاصة لدعم دفاعهم.
إني افهم تماماً بأن المفهوم الحذر جداً لا يمضي دون مخاطر واني افهم جيداً بأن «الأغلبية» يمكن لها أن تخطأ في الوقت الذي تكون فيه «الأقلية» هي التي على الصواب. ولكننا يجب أن نضع في الميزان المخاطر الناجمة عن هذا المفهوم وبين المخاطر الناجمة عن فلسفة سياسية تُخضِِِِع كل شيء لها. فقد أثبتت التجارب السابقة أن الخسارة الطفيفة في السرعة أفضل من الاستسلام للسيل العارم. وبقي أن أقول بأن الاعتدال ذاته يُقر بسماع آراء الأقلية واخذ آرائها بعين الاعتبار. ولهذا السبب أنا أقول بأن الديمقراطية هي اقل أنظمة الحكم سوءاً.
انطلاقاً من ذلك يمكن لي القول انه لا يمكن تسوية وتنظيم كل شيء، لذلك فأن هذا التعريف ليس تعريفاً نهائياً وشافياً ولكنه يسمح لنا بتفحص المشاكل التي ترهقنا وتربكنا بأسلوب شفاف ودقيق، هذه المشاكل التي لو تُركت فأنها سوف تنزع باتجاه فكرة «الثورة» ومفهوم «العنف». ويسمح لنا هذا التعريف كذلك بمنع إعطاء الحق للمال ولسلطة البوليس في إطلاق تسمية الديمقراطي على ما هو ليس بديمقراطي. نحن نسمع كل يوم الكثير من الأكاذيب في وسائل الأعلام التي هي عارُ على هذه البلاد (فرنسا). وكل فكرة أو كل تعريف يخاطر بإضافة المزيد على هذه الأكاذيب أو مساندتها هو اليوم مرفوض. ونحن اليوم إذ نقوم بتعريف بعض المفاهيم الأساسية وتوضيحها ذلك من اجل أن تكون في الغد فعَالة ومؤثرة، وبذلك نكون قد عملنا على تحرر الإنسان وقمنا بإتمام مهمتنا.
إلى هنا ينتهي حديث كامو، ومن خلال تعريفه النهائي للديمقراطية الحقيقية والديمقراطي الحقيقي وخروجه بالمفهوم النهائي كما يقول وهو «أن الديمقراطية هي الممارسة الاجتماعية والسياسية للتواضع والاعتدال»، دعونا نوجه الرسالة إلى الكتل والأحزاب والشخصيات السياسية كل في العراق اليوم من منها ينطبق عليها هذه المواصفات؟ وأي منها يتبنى هذه المفاهيم التي هي خلاصة الفكر الغربي المتمدن والمتقدم في التطبيق الحقيقي وليس المزيف لمفهوم الديمقراطية هذا؟
ورسالتنا نحن لهذه الكتل والأحزاب والشخصيات التي لا تجد فيها صفة التواضع والاعتدال والتي لا زالت تدعي أفضليتها بكل شيء وأحقيتها بكل شيء، والتي لا تعترف بجانب عدم المعرفة عندها وبجانب بعض المغامرة في أنشطتها والتي لا تعترف بأنها لم ُتؤتى العلم كله، والتي لا تجد أنها بحاجة دائمة لاستشارة الآخرين وإن تُكمل ما عندها من معرفة بما عند الآخرين من معرفة. والتي لا تعترف بان ما عندها من سلطة لا يتجاوز قدر ما فوضتها الجماهير بتلك السلطة، تلك الجماهير التي خرجت لصناديق الاقتراع، على هذه الكتل والأحزاب والشخصيات إذن ألا تطلق على نفسها صفة الديمقراطية الحقيقية وان تتنحى لتترك المجال لمن تنطبق عليه صفة الديمقراطي الحقيقي (بحسب تعريف البير كامو) لكي يأخذ بدوره ويساهم في بناء العراق المتعطش لممارسة ديمقراطية حقيقية تتسم بالشفافية والإخلاص والتواضع والاعتدال.
——————————-
المراجع
La Démocratie, exercice de la modestie,P.5 Albert Camus
Découverte de l’essai….Sara Lawall .Harcourt Brace Jovanovich, U.S.A , 1975
Traduit par Ala Al-Témimi