مناهج الحكم المحلى الديمقراطى فى أفريقيا: سياسات اللامركزية فى مصر وإثيوبيا
إعداد/ محمد حجاج
باحث دكتوراه ـ معهد البحوث والدراسات الأفريقية
فى إطار الاهتمام المستمر بدراسة النظم السياسية فى أفريقيا تأتى دراسة الحكم المحلى كنظام فرعى للنظام السياسى يركز على دور المواطنين فى حكم وإدارة شئونهم بأنفسهم وفق اختصاصات وصلاحيات أصيلة، وعلى أساس وضع دستورى صريح.
فنتيجة الاتساع الكمى والكيفى لوظائف الدولة الحديثة وواجباتها, وعدم قدرة الحكومات المركزية على تلبية الحاجات والمطالب المحلية وادارة المجتمعات المحلية بتنوعاتها المختلفة فضلا عن الاعتبارات السياسية، استلزم ضرورة وجود الحكم المحلى لأهداف تتعلق بالتعددية والديمقراطية والكفاءة الإدارية.
وبرغم الاتفاق النسبى والشائع حول معنى ودلالة فكرة الحكم المحلى من حيث أنها تعنى وجود سلطات محلية حقيقية تستطيع ممارسة شئون الحكم المحلى وفق سلطات تشريعية وتنفيذية وقضائية بعيدا عن هيمنة السلطة المركزية، فإن مفهوم الحكم المحلى قد ارتبط فى الآونة الأخيرة بمفهوم اللامركزية الذى أصبح اتجاها واضحا تطرحه تقارير ودراسات البنك الدولى خاصة دراساته عن الدول النامية وعلى وجه الخصوص فى أفريقيا. وقد ارتبط الحكم المحلى فى أغلب الدول الأفريقية بشكل الدولة من حيث كونها بسيطة أو مركبة، أو بوجود مجتمعات محلية تحظى بوجود أشكال تقليدية لتنظيم الشئون المحلية ذاتيا، أو بمدى انشغال النظام السياسى بإدارة المجتمعات المحلية أو إدارة صراعاته السياسية الداخلية والخارجية، فضلا عن موجات عدم الاستقرار السياسى والأمنى التى لاتنقطع عن معظم الدول الأفريقية.
وتشهد دراسات العلوم السياسية الآن اتجاه لدراسة نظم الحكم المحلى فى العالم وخصوصا فى الدول الأفريقية، حيث أن دراسة الحكم المحلى تعطى مؤشرا دقيقا لمدى التطور السياسى الذى تشهده الدولة، ومستوى الديمقراطية والتنمية المحلية فى مختلف قطاعاتها، وبالتالى فإن نموذج الحكم المحلى التى تتبعه دولة ما يعبر عن قوة بناء مؤسسات الدولة، وكيف أن الاتجاه نحو اللامركزية أصبح أحد مقومات الدولة الناجحه، خصوصا فى ظل دعم العديد من الهيئات الدولية لهذا الاتجاه، وبناء عليه تقوم الدراسة بدراسة مفهوم الحكم المحلى، ومفهوم اللامركزية، ومناقشة وظائف ودور الحكم المحلى، والتطور السياسى للنظم المحلية فى كل من مصر وإثيوبيا، والتطور التشريعى والدستورى والمؤسسى فى البلدين، وكيف أسهم الاتجاه نحو اللامركزية فى دعم أسس النظام السياسى الحاكم وكيف كان دور الحكم المحلى فى مواجهة التغييرات السياسية التى شهدتها كل من مصر وإثيوبيا فى السنوات الأخيرة.
سادت السلطة العرفية معظم افريقيا ماقبل الاستعمار، حيث الشكل الملكى والأبوى والسلطوى، الذى يقتضى ملكا أو زعيما فى مركز كل وحدة سياسية، اتجهت العديد من الدول الأفريقية نحو اللامركزية فى اطار سعيها نحو تحسين الأداء الحكومى السياسى والإدارى والاقتصادى. فقد عانت معظم الدول الأفريقية فى مراحل تطورها المختلفة فى فترات مابعد الاستقلال – مابعد الاستقلال ، سنوات الحرب الباردة ، مابعد الحرب الباردة – من تردى الأداء الوظيفى للدولة، ومع بداية الألفية الجديدة أصبح اعادة تركيب الهيكل الإدارى والسياسى للحكومات وسيلة رئيسية للإصلاح السياسى والاقتصادى والإدارى، وبالتالى تصبح عملية تحليل تطور ونشأة نظم الحكم فى تلك الدول عملية مهمة لدراسة واقع هذه النظم ومن ثم دراسة اشكالياتها.
تأتى دراسة الحكم المحلى فى كل من مصر وإثيوبيا وذلك لإلقاء الضوء على تجربة دولتين أصحاب تاريخ فريد فى أفريقيا، ولهما مسارين مختلفين فى طبيعة ادارة المجتمع المحلى، حيث إثيوبيا الدولة صاحبة التاريخ الطويل فى اللامركزية ومصر اقدم دول العالم المركزية، وكيف ان تجارب الدولتين على مدى اختلاف الانظمة والتغيرات السياسية التى شهدها البلدين، والانتقال احيانا من نظام ادارى لامركزى إلى نظام مركزى والعكس، قد أثر على التجربة الديمقراطية للبلدين، وهو مايشير إلى ضرورة التأكيد على استمرار تطبيق سياسات الحكم الرشيد وترسيخ أسس اللامركزية السياسية والإدارية واعطاء الاستقلال المالى للإدارات المحلية، وذلك لتعزيز المحاسبة والشفافية، وتأكيد المشاركة السياسية للشعوب الأفريقية، إن الدول الفريقية وفى إطار توجهها لتطوير نماذج بناء الدولة التى بدأت مع بدايات ما بعد الاستقلال يجب ان تسعى إلى تعزيز المشاركة الديمقراطية على المستويات المحلية، وبناء مجتمع محلى وتنظيمات محلية قوية، تساعد على ترسيخ الأسس العامة للديمقراطية فى مجتمعاتها، وهو الهدف المنشود من تطبيق سياسات اللامركزية والحكم الرشيد.
الإطار النظرى للدراسة
يرتبط مفهوم الحكم المحلى بموضوعين رئيسيين هما اللامركزية والفيدرالية، حيث ترتبط اللامركزية بأسلوب عمل تنظيم الدولة، بينما تمثل الفيدرالية شكل التنظيم نفسه. من هنا يكمن موقع الحكومة المحلية في الدولة، وهو ما يجعل مفهومي اللامركزية والفيدرالية محددين رئيسيين فى توضيح معنى وطبيعة الحكم المحلى.
ويختلف تحديد المفاهيم المرتبطة بالإدارة المحلية والحكم المحلى باختلاف العوامل والمؤثرات البيئية من دولة لأخرى، والتى تعكس تأثيرها بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الأسلوب الذى تتبعه الدولة بخصوص تنظيم أجهزتها السياسية والإدارية، سواء على المستوى المركزى أو المحلى[1].
مفهوم اللامركزية
غالبا ما تعتبر اللامركزية آلية لا غنى عنها لتعزيز الديمقراطية والتنمية فى الدولة، فاللوم على الحكومات المركزية لبعدها عن واقع الشعوب، يجعل من نقل بعض السلطات والوظائف إلى الوحدات الفرعية من الحكومة حلا فاعلا ومناسبا للمشاكل المتفاقمة يوميا أمام الحكومات، حيث تتمكن الحكومات المحلية من استخدام أفضل وفعال للموارد المتاحة من الحكومة المركزية[2].
تشتمل اللامركزية على مجموعة واسعة من الترتيبات والإصلاحات المؤسسية، مما يجعل تعريفها عملية صعبة، فيرى بعض الكتاب انها احيانا تختلف حسب ما يعنية مستخدم المصطلح، فيلاحظ انه لا وجود لتعريف دقيق لللامكزية، بل هى افكار متشابهة ومتسعة وتستخدم تسميات مختلفة بطرق مختلفة ينتج عنها استنتاجات مختلفة وفقا للدراسات التجريبية، بينما يرى البعض ان التعريف الكلاسيكى يعنى مدى السلطة المعطاه للسلطات المحلية المنتخبة وقدرتها على اتخاذ قرارات وسياسات معينة، بينما يرى البعض الآخر انها تعنى نقل الصلاحيات والموارد من المستويات العليا إلى المستويات الدنيا فى النظام السياسى[3].
أشكال اللامركزية
أولاً: لامركزية سياسية كلية
وهى وضع دستورى يقوم على أساس توزيع الوظائف الحكومية المختلفة، التشريعية والتنفيذية والقضائية بين الحكومة الاتحادية فى العاصمة وحكومات الولايات أو الجمهوريات او غيرها من الوحدات السياسية، وتتسم طبيعة السلطة الموزعة بأنها سلطة حكم ( تشريع وتنفيذ وتقاضى) ويكون نطاقها متسعا بأكبر قدر ممكن بما لا يهدد وحدة الدولة، وتتحقق فيه اللامركزية السياسية إلى أقصى مدى، بحيث تكون الهيئات الإقليمية منتخبة انتخابا كاملاً فى نطاق اختصاصاتها بواسطة السكان المحليين فى المنطقة، دون ان يكون هناك أى عضو معين من قبل الحكومة المركزية أو تابع لها[4]. ويناسب هذا النمط الدول كبيرة الحجم، متعددة القوميات واللغات والثقافات.
ثانياً: لامركزية سياسية جزئية
وتتوزع فيه أيضا سلطة الحكم ( التشريع، التقاضى، التنفيذ ) ولكن على نطاق جزئى، فسلطة الحكم الموزعة على الوحدات المحلية أقل نسبيا، وهذا الشكل من اللامركزية عادة ما يكون متضمنا فى التشريع والقوانين، حيث يتم نقل بعض سلطات الحكم فيصبح لها دور فى صنع السياسات العامة ( المحلية ) . ويكون تشكيل المجالس المحلية مختلطا ومتقاسما بين أعضاء منتخبين شعبيا، وبين أعضاء معينين مركزيا من أهل الخبرة والمعرفة[5].
ثالثاً: اللامركزية الإدارية
وهى تعنى توزيع الوظيفة الإدارية خارج نطاق المركز، وهو ما قد يختلف فى طبيعته ونطاقه من حالة لأخرى، وهناك بطبيعة الحال لامركزية إدارية كلية حيث يتم توزيع الكثير من الصلاحيات الجوهرية للوظيفة الإدارية، وهناك لامركزية إدارية جزئية يتم فيها توزيع بعض الصلاحيات الضرورية على مستويات إدارية أدنى. وتحتفظ الحكومة المركزية دائما بحقها فى اعادة توزيع السلطات ومراجعة واعادة توجيه الوحدات الإدارية بشكل مستمر[6].
رابعاً: اللامركزية المالية
حيث تمثل المسؤولية المالية عنصر رئيسى فى وظائف الوحدات المحلية، سواء فى تنوع مصادر الإيرادات والتمويل الذاتى، وفرض الضرائب وتحصيلها، وأصبحت اللامركزية المالية أحد اهم مداخل الاهتمام بالدول المتقدمة والنامية على حد سواء من خلال برامج البنك الدولى والمؤسسات الداعمة فى السنوات الأخيرة. وهى تتحقق عندما تتمكن الوحدات المحلية او المستويات الدنيا من اتخاذ القرارت المالية والتأثير فى الميزانيات والموارد[7].
الحكم المحلى وأهدافه
كان لاتساع دور ووظائف الدولة الحديثة، وتعدد واجباتها، وتباين حاجات ومطالب المواطنين، وعدم قدرة الحكومة المركزية على التخطيط للمشروعات المحلية، أثر كبير فى تعدد أهداف الحكم المحلى، والحاجة إلى مستوى آخر من مستويات الحكم غير المركزى للقيام على بدور ووظائف الدولة[8] .
أولاً: التعددية
ويقصد بها توزيع السلطة فى الدولة بين الجماعات والمصالح المتنوعة، وتكون وظيفة الدولة فى هذه الحالة التنسيق ووضع الحلول التوافقية بين الجماعات والمصالح المتصارعة، حيث تعتبر المجالس المحلية من بين اهم الجماعات التى تشارك الحكومة المركزية فى اختصاصاتها وسلطاتها[9].
ثانياً: الديمقراطية
تتعلق بتحقيق مشاركة المواطنين سواء فى التعبير عن وجهة نظر الجماعة المحلية، أو فى التقديم الفعلى للخدمات، حيث يبرز دور الحكم المحلى فى المشاركة السياسية، تدريب القادة السياسيين والاستقرار السياسى، فالمجالس المحلية تعتبر المدرسة الاولية للقادة السياسيين، كذلك يسهم الحكم المحلى فى التنمية السياسية على صعيد الجماعات المحلية والتى قد تكون غير مهتمة بالشأن العام على المستوى الوطنى[10]. ويسهم نظام الحكم المحلى فى تنمية الديمقراطية المحلية والديمقراطية على المستوى الوطنى، وذلك من خلال ثلاث وظائف يقوم بها نظام الحكم المحلى[11]: التعليم السياسى ، تدريب القادة السياسيين ، والاستقرار السياسى.
ثالثاً: الكفاءة الإدارية
حيث تعتبر الوحدات المحلية الإدارية اكثر كفاءة من غيرها بسبب قدرتها على الاستجابة والاحساس بحاجات المواطن فى دائرتها، لذلك تكون قدرة الوحدات المحلية على تقديم الخدمات العامة أعلى بسبب الرقابة المحلية القريبة جدا من الموظفين حيث المعرفة الشخصية تغلب على سكان نفس الوحدات المحلية، وهو مايفعل من قدرة المساءلة المحلية والرقابة على الأداء الحكومى المحلى[12].
الحوكمة المحلية Local Governance
ظهر مفهوم الحوكمة Governance فى كتابات البنك الدولى مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات فى ظل انتشار برامج التغير الهيكلى والخصخصة وحزم التغيير الاجتماعى والديمقراطى التى بدات تفرضها الدول الغربية فى حقبة مابعد الحرب الباردة، ويرى البعض أن الاختلاف بين مفهومى الحكم المحلى والحوكمة المحلية يرجع لاختلاف دور كل منهما[13]، فالحكومة المحلية دروها هو المخطط الذى يبادر بالمشروعات وغيرها، بينما فى ظل الحوكمة المحلية يكون دورها هو قيادة التفاعلات داخل المجتمع.
أسباب التحول من الحكم المحلى إلى الحوكمة المحلية
هناك الكثير من العوامل السياسية والاجتماعية، وعوامل البيئة الدولية المرتبطة بالنظام العالمى وبالتطور التكنولوجى وتطور علمى الإدارة والسياسة وغيرها، والتى أثرت على الحكم المحلى:
أن الدولة لم تعد الفاعل الوحيد فى صنع وتنفيذ السياسات العامة، بل أصبح هناك فاعلون آخرون مثل المنظمات والمؤسسات الدولية، والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى.
ظهور الكثير من الكيانات السياسية التى تعلو على كيان الدولة مثل الاتحاد الأوروبى، والمنظمات الإقليمية.
تغير الخريطة السكانية لكثير من المناطق المحلية، حيث زادت نسبة الهجرة من الريف إلى الحضر، والهجرة من الدول النامية – خصوصا من قارة أفريقيا – إلى الدول المتقدمة.
الاتجاه إلى الاستفادة من أساليب إدارة الأعمال ( استرداد التكلفة، رسوم الانتفاع، الإسناد إلى الغير ) فى مجال الإدارة العامة. كما حلت مجموعة من القيم الجديدة ( التمكين، التركيز على النتائج ) محل مجموعة من القيم القديمة ( الأقدمية، التدرج الوظيفى ) .
ولهذا حدث الانتقال من نظام حكم محلى تسيطر فى المجالس المحلية المنتخبة، إلى نظام حكم محلى يشارك فيه القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية. وقد عرف البنك الدولى الحوكمة المحلية بأنها العمليات والمؤسسات التى تحدد كيفية ممارسة السلطة والرقابة وإدارة الموارد، من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ونجد أن مفهوم الحوكمة المحلية يؤكد على ضرورة الانتقال بفكرة الحكم من الحالة الهيكلية إلى حالة أكثر تفاعلا وتكاملا بين مكونات ثلاثة هى: الأجهزة الحكومية، مؤسسات المجتمع المدنى، ومنظمات القطاع الخاص.
سمات الحوكمة المحلية الرشيدة
تتسم الحوكمة المحلية الرشيدة بما يلى[14]:
المشاركة Participation
عن طرق تهيئة السبل والآليات المناسبة للمواطنين المحليين كأفراد وجماعات، من أجل المساهمة فى عملية صنع القرار، وتمكين المواطنين من المشاركة فى الانتخابات واختيار ممثلين عنهم فى مختلف مستويات الحكم.
المساءلة Accountability
يخضع صانع القرار فى الأجهزة المحلية لمساءلة المواطنين والأطراف الأخرى ذات العلاقة، حيث تتاح للمواطن امكانية الرقابة وأدواتها[15].
الشرعية Legitimacy
قبول المواطن المحلى لسلطة هؤلاء الذين يحوزون السلطة داخل المجتمع ويمارسونها فى إطار قواعد وعمليات وإجراءات مقبولة، وان تستند إلى حكم القانون والعدالة.
الكفاءة والفعالية Efficiency & Effectiveness
ويعبر عن ذلك البعد الفنى لأسلوب الحكم المحلى، حيث قدرة الأجهزة المحلية على تحويل الموارد إلى برامج وخطط ومشاريع تلبى احتياجات المواطنين المحليين وتعبر عن اولوياتهم، مع تحقيق نتائج أفضل وتنظيم الاستفادة من الموارد المتاحة[16].
الشفافية Transparency
إتاحة المعلومات وسهولة الحصول عليها لكل الأطراف فى المجتمع المحلى، للحكم على مدى فعالية الأجهزة المحلية، وكذلك تعزيز قدرة المواطنين على المشاركة.
الاستجابة Responsiveness
بمعنى ان تسعى الأجهزة المحلية إلى خدمة جميع الأطراف المعنية، والاستجابة لمطالبها، خاصة الفقراء والمهمشين، وترتبط الاستجابة بدرجة المساءلة التى تستند بدورها على درجة الشفافية وتوافر الثقة بين الأجهزة المحلية والمواطن[17].
الإدارة المحلية فى مصر
شهدت مصر انظمة مختلفة من الحكم المحلى فى ظل الدولة الحديثة بدأ مع انشاء مجالس المديريات عام 1883 ، وهذه المجالس وان كانت منتخبة فإنها فى الواقع كانت فروع للحكومة المركزية، حيث لم تكن تتمتع بوضعية الشخصية المعنوية المستقلة أو بسند دستورى، فقد كانت اختصاصاتها استشارية. فى عام 1890 تم انشاء اول مجلس بلدى فى مصر بمدينة الاسكندرية، بعدها بثلاث سنوات فى عام 1893 صدر قرار من مجلس النظار ( مجلس الوزراء ) يقضى بانشاء مجالس محلية من المواطنين يعتمد فى موارده على الاعانات الحكومية، ثم فى عام 1896 أنشأ نوع من المجالس المختلطة العضوية ( المصريين والأجانب ) على أن تتوسع موارده المالية ونظام عضويته بدفع رسوم بلدية للقيام بنفقات المرافق العامة، وبلغ عدد هذه المجالس حتى عام 1917 حوالى 13 مجلساً، وفى عام 1918 نشأت فى مصر المجالس القروية بلائحة أساسية صادرة عن وزارة الداخلية[18].
ومع صدور دستور 1923 تم التأسيس للنظام الدستورى للإدارة المحلية فى مصر، فقد أنشأ الدستور مجالس المديريات والقرى وجعلها شخصيات معنوية مستقلة تختص بمباشرة حقوقها، وجعل الدستور اختيار أعضاء هذه المجالس بالانتخاب إلا فى الحالات الاستثنائية والتى يتيح فيها القانون تعيين بعض الاعضاء غير المنتخبين، كذلك اختصاص هذه المجالس بشئون أهل المديرية او القرية او الجهة ، ووفقا للدستور تقوم هذه المجالس بنشر ميزانياتها وحساباتها وكذلك تكون جلساتها علنية، فضلا عن اقرار الدستور للسلطة التشريعية والتنفيذية لمنع تجاوز هذه المجالس لاختصاصاتها او اضرارها بالمصلحة العامة[19].
نتج عن هذا التطور فى انشاء المجالس المحلية ثلاثة انواع من المجالس: المجالس المحلية، المجالس المختلطة والمجالس القروية. وبحلول عام 1944 كان يوجد بمصر 25 مجلسا محليا، و13 مجلسا مختلطا، و87 مجلس قروى، وكان مجموع المدن والقرى فى هذه الفترة حوالى 4000 مدينة وقرية. ثم صدر قانون 145 لسنة 1944 بنظام المجالس البلدية، وقصر عضوية هذه المجالس على المصريين دون الأجانب.
غيرت ثورة 1952 شكل الدولة المصرية باعلان الجمهورية والتحول تجاه النمط الاشتراكى، وهى الفترة التى تلتها تغيرات فى العديد من الدولة الأفريقية حيث بدأت القوات الاستعمارية فى الرحيل وواجهت دول مابعد الاستقلال مشكلات بناء الدولة، وواجهت تلك الأسئلة المتعلقة بنظم الحكم والحكم المحلى وادارة المجتمعات والمؤسسات المحلية، وفى هذا الإطار صدر دستور مصر لعام 1956 يؤسس لخمس مبادىء رئيسية هى: القضاء على الاستعمار، القضاء على الاقطاع، القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال على الحكم، اقامة جيش وطنى قوى، إقامة عدالة اجتماعية، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة. وبناء عليه قسم الدستور الجمهورية المصرية إلى وحدات إدارية لها شخصيات اعتبارية، ويمثل هذه الوحدات مجلس يختار أعضاءه بطريق الانتخاب، مع جواز اشتراك اعضاء معينون فى عضوية هذه المجالس الادارية. وتختص هذه المجالس الممثلة للوحدات الإدارية بانشاء وادارة المرافق والأعمال الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والصحية بدائرتها، وتكون جلسات المجالس علنية، وحدد الدستور موارد الوحدات الادارية بالضرائب والرسوم ذات الطابع المحلى، كذلك اكد الدستور على ضمان الدولة وتكفلها بما تحتاجه الوحدات الإدارية من معاونة فنية وإدارية ومالية[20].
مع التطور السياسى الذى شهدته مصر فى الستينيات صدرت قوانين تؤكد دعائم المجتمع الاشتراكى الديمقراطى، حيث صدر قانون رقم 124 لسنة 1960 الخاص بنظام الادارة المحلية، والذى خلق هيئات محلية على مستوى كل من المحافظات والمدن والقرى، تقوم على شئونها أفراد ممثلين للشعب اختارهم بمحض ارادته. ثم فى عام 1962 صدر قرار جمهورى رقم 68 بانشاء وزارة الإدارة المحلية، وهو مايعكس اهتمام الدولة بتطور النظام المحلى بما يدعم دور المؤسسات والهيئات المحلية، وحدد هذا القرار اختصاصات ومسئوليات وزارة الإدارة المحلية بالتالى[21]:
بحث واقتراح السياسة العامة للإدارة المحلية وتحديد برامجها التنفيذية بما يحقق أهداف المجتمع الديمقراطى .
وضع الخطط والمشروعات التنفيذية لهذه السياسة، واعداد التشريعات والقرارات واللوائح والقوانين المنفذة لها.
تنفيذ قانون نظام الإدارة المحلية ولائحته التنفيذية وتشكيل المجالس والاشراف عليها.
تحقيق التعاون بين المجالس المحلية والوزارات وأجهزة الدولة المركزية والتنسيق بينها.
وضع مشروع ميزانية الوزارة وفحص ميزانيات المجالس.
بحث اقتراح المعونة الحكومية والايرادات المشتركة لمجالس المحافظات.
اقتراح السياسة العامة لإنشاء الوحدات المجمعة والاشراف على تنفيذها بعد اعتمادها.
تنظيم المؤتمرات وحلقات الدراسة الخاصة بالادارة المحلية والاشتراك فيها.
متابعة وتقييم ما يتم تنفيذه من الخطة والمشروعات والبرامج التنفيذية.
تم تقسيم الجمهورية إلى محافظات يرأس كل منها محافظ يقوم رئيس الجمهورية بتعيينه، وهو ممثل للسلطة التنفيذية المركزية فى دائرة اختصاصه، وهو يتولى الإشراف على تنفيذ السياسة العامة للدولة، والمحافظ يرأس مجلس المحافظة ويتولى التفتيش على اعمال مجالس المدن والقرى فى نطاق محافظته. وتختص مجالس المحافظات بانشاء وادارة المرافق والأعمال ذات الطابع المحلى، ولها كذلك حق الاشراف على مجالس المدن والقرى، وهى تقوم بشئون التعليم والصحة والشئون الاجتماعية، وتعمل على النهوض بالانتاج الزراعى والحيوانى والصناعى، والاهتمام ببيئة العمل وحماية المرأة وحقوق الطفل. أما مجالس المدن فهى تنشأ بقرار من وزير الإدارة المحلية وتباشر اختصاصها وفقا للائحة تنفيذية فى مجالات الشئون الاجتماعية والاقتصادية والصحة والتعليم والثقافة وتنظيم المرافق وغيره من الأعمال العامة. كذلك تقوم المجالس القروية فى دائرة اختصاصها بأداء الخدمات التعليمية والصحية والثقافية والاجتماعية والزراعية وسائر الخدمات فى نطاق القرية. ويمثل هذا الشكل من التنظيم المحلى دعامة التنظيم المحلى المصرى الحالى مع اختلاف التطور التشريعى والقانونى المنظم لعمله سواء فى نطاق السلطة المركزية أو فى اطار اتباع سياسة اللامركزية.
صدر دستور عام 1971 بتشكيل المجالس الشعبية المحلية تدريجيا على مستوى الوحدات الإدارية عن طريق الانتخاب المباشر، على ان يكون نصف أعضاء المجلس الشعبى على الأقل من العمال والفلاحين، ويكون اختيار رؤساء ووكلاء المجالس بطريق الانتخاب من بين الأعضاء. وترك الدستور للقانون طريقة تشكيل هذه المجالس واختصاصاتها ومواردها المالية وعلاقتها بالسلطة التشريعية والتنفيذية وكذلك دورها فى اعداد وتنفيذ خطة التنمية والرقابة على أنشطتها[22].
وفقا لدستور 1971 تم تقسيم محافظات مصر إلى 26 محافظة ومدينة ذات طابع خاص هى مدينة الأقصر، وصدرت عدة قوانين منظمة للهيكل التنظيمى والقانونى للإدارة المحلية فى السنوات المتعاقبة على هذا الدستور، نتج عنها تغير فى ملامح شكل النظام المحلى، فقد تم تغيير مسمى الإدارة المحلية إلى الحكم المحلى بما لا يتماشى دستوريا مع المسمى الدستورى وهو ما تم التراجع عنه بعد ذلك والعودة لمسمى الإدارة المحلية، كذلك تم تطوير هيكل التنظيم المحلى لينقسم إلى محافظات ثم مراكز ثم مدن ثم أحياء ثم قرى. وحدد القانون تشكيل مجلس محلى بالانتخاب المباشر لكل وحدة محلية. كذلك تم تغيير مسمى المجالس المحلية مرة أخرى لتصبح المجالس الشعبية المحلية، وتم توسيع الاختصاصات الأصيلة للوحدات المحلية بانشاء وادارة جميع المرافق العامة الواقعة فى دائرتها ومباشرة جميع اختصاصاتها، كذلك تم انشاء مجلس محافظين برئاسة رئيس الوزراء وعضوية الوزير المختص بالادارة المحلية وجميع المحافظين، طرأ تغيير على النظام الانتخابى المحلى حيث تحول الى الانتخاب بالقوائم الحزبية بدلا من الانتخاب الفردى، ثم تحول للمزج بين القوائم والفردى وبعدها ثم الرجوع مرة أخرى الى الانتخاب بالنظام الفردى[23].
بعد التحول السياسى فى مصر نتيجة أحداث 25 يناير 2011 ، بدأت الدولة فى تطوير نظام الإدارة المحلية فنص الدستور على ان تكفل الدولة دعم اللامركزية الادارية والمالية والاقتصادية، كذلك لأول مرة ينص الدستور على أن ينظم القانون شروط وطريقة تعيين او انتخاب المحافظين، ورؤساء الوحدات الإدارية المحلية الأخرى، ويحدد اختصاصاتهم، وتنتخب كل وحدة محلية مجلسا بالاقتراع العام السرى المباشر، لمدة أربع سنوات، ويشترط فى المترشح ألا يقل سنه عن إحدى وعشرين سنة ميلادية – تم استحداث هذه المادة لزيادة مشاركة الشباب بعد التغيير السياسى فى 30 يونيو 2013 – على أن يخصص ربع عدد المقاعد للشباب دون سن خمس وثلاثين سنة، وربع العدد للمرأة، على ألا تقل نسبة تمثيل العمال والفلاحين عن خمسين بالمائة من إجمالى عدد المقاعد، وأن تتضمن تلك النسب تمثيلا مناسبا للمسيحيين وذوى الإعاقة، ومنح الدستور للمجالس المحلية الحق فى أن تكون قرارات المجلس المحلى الصادرة فى حدود اختصاصه نهائية، ولا يجوز تدخل السلطة التنفيذية فيها، إلا لمنع تجاوز المجلس لهذه الحدود، أو الإضرار بالمصلحة العامة، أو بمصالح المجالس المحلية الأخرى، وحدد الدستور مايتم عند حدوث خلاف على اختصاصات هذه المجالس المحلية للقرى والمراكز أو المدن، يفصل فيه المجلس المحلى للمحافظة، وفى حالة الخلاف على اختصاص المجالس المحلية للمحافظات تفصل فيه الجهات القانونية التابعة لمجلس الدولة. وأكد الدستور على أنه لا يجوز حل المجالس المحلية بإجراء إدارى شامل، بل ينظم القانون طريقة حل أى منها، وإعادة انتخابه[24].
الوضع السياسى للإدارة المحلية فى مصر
فى السنوات الأخيرة من حكم النظام السياسى السابق، كانت هناك توجهات حكومية نحو توسيع نطاق تطبيق اللامركزية ، وتم اعتمادها كمشروع قومى تنفذه المحليات بمساعدة ودعم الحكومة، وألا تكون اللامركزية فقط على مستوى المحافظة بل على المستويات المحلية الأخرى، بحيث تقوم الوحدات المحلية القروية وما فى مستواها من مدن بوضع خططها المحلية، ويمتد بعد ذلك إلى مستوى المركز ثم المحافظة، وذلك فى إطار تقسيم واضح للأدوار بين التنفيذيين والشعبيين، وبدأت الحكومة بتطبيق اللامركزية المالية والإدارية جنبا إلى جنبا[25].
ونظرا للأوضاع السياسية المضطربة فى مصر بعد أحداث 25 يناير 2011، واتهام المعارضة للنظام السياسى بافساد الحياة السياسية فى مصر، والسيطرة على مفاصل الدولة وأجهزتها التنفيذية، رفعت المعارضة دعوة قضائية تطالب بحكم قضائى لحل المجالس الشعبية المحلية، وبناء عليه صدر قانون بحل جميع المجالس الشعبية المحلية فى المحافظات وغيرها من وحدات الإدارة المحلية، وأضاف القانون مادة تتيح لرئيس الوزراء تشكيل مجالس شعبية محلية مؤقته فى المحافظات بحيث تضم فى تشكيلها عددا كافيا من أعضاء الهيئات القضائية السابقين ومن أعضاء هيئة التدريس بالجامعات ومن الشخصيات العامة ومن القيادات المجتمعية الأهلية وممثلاً عن الشباب وآخر عن المرأة، على أن يكون ذلك بناء على عرض من وزير التنمية المحلية والمحافظين، ويختار أعضاء المجلس الشعبى المحلى المؤقت من بينهم رئيس المجلس والوكيل. وحدد القانون بأن يتولى المجلس الشعبى المحلى المؤقت اختصاصات جميع المجالس الشعبية المحلية فى دائرة المحافظة وذلك بالنسبة للمسائل الضرورية والعاجلة لإدارة عمليات التنمية وتلبية مطالب المواطنين طبقا للخطة الاستثمارية للمحافظة والمشاركة المجتمعية، ويحقق سير المرافق العامة فيها. وحدد القانون مدة عمل هذه المجالس بأن تستمر بشكل مؤقت لمدة سنة أو انتهاب مجلس شعبية محلية جديدة، ونظرا للتغيرات السياسية التى طرات بعد ذلك لا تزال هذه المجالس مستمرة فى عملها بشكل مؤقت ولا تزال البلاد فى انتظار القانون الجديد للإدارة المحلية رغم التطور الدستورى الذى طرأ على باب الإدارة المحلية[26].
الحكم المحلى فى إثيوبيا
بدأ التاريخ الحديث للحكم المحلى فى إثيوبيا مع حكم هيلاسلاسى الذى امتد أكثر من نصف قرن، واشتهر باستخدامه الوسائل الدستورية والقانونية والرسمية لبسط سيطرة السلطة المركزية، ففى عام 1931 أصدر أول دستور مكتوب للبلاد والذى جرد على نحو رسمى الزعماء المحليين من سلطاتهم وامتيازاتهم التقليدية، ووصلت الأمور لمداها فى عام 1942 عندما أصدر قوانين الإصلاح الإدارى الإقليمى والمحلى 1942/1. وأعلن أن الغرض من هذا الاصلاح تحديث وتوحيد الإدارات الإقليمية والمحلية. بينما كان الدافع الرئيسى لها هو المضى قدما نحو المزيد من تركيز السلطات فى يد الحكومة المركزية، وكجزء من هذا الاصلاح قام باعادة رسم حدود الأقاليم والمناطق المحلية [27].
يلاحظ أنه رغم أن إثيوبيا تشهد لأول مرة فى تاريخها دستورا وقوانين حديثة تنظم عملية إدارة الدولة وتنظيم السلطات فيها، إلا أنها استقرت فى جانب كبير منها فى عرش الإمبراطور، فقد احتفظ هيلاسلاسى لنفسه بتعيين الإداريين والحكام المحليين على مستوى الأقاليم والمقاطعات، وكان عليهم التصرف كوكلاء عنه فى مواقعهم وليس فقط كموظفين فى الدولة عينهم الإمبراطور، وهو ما يعنى ان نظاما للحكم المحلى لم يكن هو المعنى بالأساس عند وضع الدستور او قوانين الإصلاح الإدارى بقدر ما كان خلق جهازا وأدوات سلطة تحكم الأقاليم والمجتمعات المحلية باسم الإمبراطور، وليس باسم الدولة أو بحكم وظائفهم الدستورية والقانونية.
كانت محاولات فرض الحكم المركزى على إثيوبيا عملية متناقضة مع الواقع التاريخى والاجتماعى والاقتصادى، ومع التنوع الإثنى فى البلاد، وقد نتج عن تركيز السلطة والثروة فى يد جماعة إثنية محددة – أمهره – إلى تهميش باقى الجماعات مما نتج عنه نصف قرن من الحرب الأهلية فى البلاد [28].
بعد الإطاحة بالامبراطور هيلاسلاسى عام 1974، وتولى الدرج Derg السلطة، اعتنق التوجه الاشتراكى وقام بحركة تأميم واسعة طالت كافة الأراضى فى المناطق الحضرية والريفية، وأنشأ مؤسستين على المستوى المحلى هما: جمعية سكان المناطق الحضرية Urban Dwellers’ Association(UDP) ، وجمعية الفلاحين Peasant Association (PA) ، وأنشئت فروع هاتين المؤسستين فى كل من المستويات الإدارية، فى الولايات Woreda المستوطنات Kebele ، والمدن والأقاليم ، وكان الهدف المعلن لها هو تنظيم سكان المدن والفلاحين لإدارة شئونهم، والمشاركة فى النشاطات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والعمل على حل مشاكلهم، ولهذا الغرض منحت تفويضا رسميا بالعمليات التنموية الهامة مثل مد الطرق، وبناء الأسواق والمنازل، والمدارس، وكافة العمليات التنموية الأخرى [29].
وقد كان منح UDP و PA هذه السلطات والمسئوليات نوعا من تفويض السلطة من قبل الحكومة المركزية إلى المؤسسات المحلية وهو ما كان يتلاقى مع توجه الدرج المعلن فى سياساته عن الاعتماد على الذات والاشتراكية الإثيوبية، كذلك كانت قدرة هاتين المؤسستين على تقديم الخدمات Service Delivering أحد انجازاتهما فى البداية حيث انطلقت حملات محو الأمية فى أماكن عديدة، وانتشرت المحال العامة التى تقدم السلع الغذائية الأساسية، بالإضافة إلى التوسع فى مجال الخدمات الصحية والتعليم [30].
فى مايو 1991 أطاحت الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية الإثيوبية Ethiopian People’s Revolutionary Democratic Front ( EPRDF ) بحكم الدرج، وبعد أيام قليلة عقد مؤتمر وطنى شكل حكومة انتقالية أصدرت ميثاق الحكومة الانتقالية Transitional Period Charter ( TPC ) ، والذى كان بمثابة دستور مؤقت لحين صدور الدستور – صدر فى 1995 – وقد اعترف الميثاق بحق تقرير المصير لكافة الأمم والقوميات فى البلاد، وسمح لكل جماعة عرقية باقامة حكم ذاتى بدءا من مستوى المقاطعات، ووضع الأساس لتشكيل حكومات محلية وإقليمية على أساس نمط من التسوية بين الجماعات العرقية فى البلاد، وحددت المناطق بأربعة عشر منطقة، وتم الاعتراف بأربعة وستون مجموعة إثنية، سمح لثمانية وأربعون منها فقط بالحكم الذاتى على المستوى المحلى والإقليمى، وصنفت المجموعات الإثنية الباقية على انها أقليات لا يحق لها تشكيل حكومات محلية، لكن لها الحق فى التمثيل فى المجالس المحلية، وقد كان هذا الميثاق هو حجر الأساس لما عرف بعد ذلك بالفيدرالية الإثنية [31].
صدر دستور 1995 مؤسسا لهيكل فيدرالى مكون من تسع ولايات إثنية هى: عفر Afar، أمهره Amhara، بنى شنجول جوموز Benishangul/Gumuz، جامبلا Gambella، هرر Harari، أورومو Oromia، الصومال Somali ، شعوب وقوميات الأمم الجنوبية Southern Nations, Nationalities and Peoples ( SNNP )، تيجراى Tigray، ومدينتين مستقلتين هما أديس أبابا (العاصمة ) Addis Ababa، ودير داوا Dire Dawa [32].
ولم يكن العامل الإثنى هو المحرك الوحيد فى هذا الشكل الفيدرالى، بل تدخلت العوامل السياسية فى بعضها، مثل فصل أديس أبابا عن أورومو رغم وقوعها فى نطاقها وجعل تبعيتها لرئيس الوزراء كون أنها العاصمة الاتحادية، وللطبيعة الديموغرافية للمدينة وكونها بوطقة انصهار لمعظم الثقافات والعرقيات فى إثيوبيا مما يجعلها فى مصاف المدن الكوزموبوليتانية على المستوى المحلى [33].
تتكون الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات من أعضاء الاتحاد، وتكون للحكومة الاتحادية ولحكومات الولايات سلطات تشريعية، تنفيذية وقضائية، ومجلس النواب هو أعلى سلطة فى الحكومة الاتحادية، ويكون مسئول أمام الشعب، ومجلس الولاية هو أعلى السلطات على مستوى الولاية ويكون مسئولا أمام شعبها. تنشأ حكومة الولاية على مستوى الولاية، وتنشأ كافة المستويات الإدارية إذا لزم، وتمنح السطات المطلوبة للمستويات الإدارية الأدنى لتمكين المشاركة الشعبية فى إدارة هذه الوحدات. ولمجلس الولاية سلطة التشريع فى المسائل الداخلة فى اختصاص الولاية، بما يتفق مع أحكام الدستور، وللمجلس الحق فى صياغة واعتماد وتعديل دستور الولاية. وتمثل إدارة الولاية أعلى سلطة تنفيذية فى الولاية، وتمثل محاكم الولايات السلطات القضائية للولاية، وأكد الدستور على ان سلطات كل من الحكومة الاتحادية وحكومات الولاية محددة فى الدستور، وأن على حكومات الولايات احترام اختصاصات الحكومة الاتحادية، كما على الحكومة الاتحادية احترام اختصاصات حكومات الولايات، وللحكومة الاتحادية تفويض ما تراه ضروريا من الصلاحيات والوظائف الممنوحة لها بموجب هذا الدستور[34].
تنقسم الولايات إقليميا(Regional) إلى مناطق (Zones) ثم مقاطعات (Woredas) ثم مستوطنات(Kebeles)، وتعتبر المقاطعات الوحدة الأساسية للحكم المحلى ويبلغ متوسط عدد سكانها 100,000 نسمة، والمستوطنات عبارة عن قرى أو مجتمعات حضرية يبلغ متوسط عدد سكانها حوالى 5000 نسمة، ولها هيكل إدارى من الموظفين المنتخبين والذين – من المفترض – يمثلون المواطنين فى المستوطنة، يختلف الهيكل فيما دون المستوطنات، ففى كل من الأورومو والعفر لايوجد هيكل رسمى للمستوطنات الفرعية، بينما فى الأمهرة تتفرع المستوطنات إلى مستوطنات فرعية ( Sub-Kebeles ) يبلغ عدد سكانها من 300 إلى 400 أسرة ، ثم إلى Gotts وهى قرى مكونة من حوالى 100 أسرة، ثم ما يسمى بالتجمعات الحكومية وتتكون من 30 إلى 50 أسرة، القوميات الجنوبية تسمى المستطونات الفرعية بال Kantas ، ويتفرع منها مايسمى بال Ketenas [35]. يوضح الجدول رقم (1) عدد المقاطعات للولايات التسع.
والمستوطنات لا تحظى بنفس الوضع الدستور للولايات والمناطق الفرعية، ولكن لديها هياكل إدارية وقضائية موازية، وهى بالواقع العملى تعد المستوى الأولى للتعامل مع المواطن الإثيوبى، جدير بالذكر أن المستوطنات هى من انشاء الدرج، وهى تهدف إلى السيطرة على السكان فى نظام حكم مركزى، مما أبرز العديد من التحديات الحقيقية عند التحول من نظام مركزى إلى نظام فيدرالى لامركزى، وهو ما يعكس بحكم الواقع حكم الحزب الواحد، حيث أحيت الجبهة المتغيرات الإثنية المحلية وحركتها كمعبر عن السلطة المركزية[36].
والوضع الحالى يمثل فجوة كبيرة بين احكام الدستور بخصوص اللامركزية، وبين واقع تطبيق هذه الأحكام، فالدستور يسمح بنظام حزبى تعددى، بينما الواقع يقضى بأن الحزب الحاكم يهيمن على السلطة التنفيذية والتشريعية على المستوى الوطنى وعلى مستوى الحكومات المحلية.
خاتمة
لا يمكن اغفال الدور المهم للمشاركة المحلية فى عمليات تعزيز المشاركة السياسية وبناء المؤسسات، كذلك الدور الرئيسى للتأصيل الدستورى والتشريعى لسياسات اللامركزية والحكم الرشيد، وهو مايبدو جليا فى التشريعات التى اتبعتها كل من مصر واثيوبيا فى السنوات الأخيرة، غير ان هذا التوجه من قبل الدولة، يعرقله مشكلات النظام السياسى الرامية نحو الهيمنة الحزبية والسيطرة على المناصب على المستويين المركزى والمحلى، ففى إثيوبيا ورغم تأسيس الفيدرالية الإثنية منذ 1995 لا تزال الجبهة هى الكيان السياسى المسيطر سواء على المستوى الفيدرالى أو الولايات وكذلك على مستوى المناصب فى الحكومات المحلية، وفى مصر شهدت السنوات السابقة لأحداث 2011 هيمنة كاملة من الحزب الوطنى على مفاصل الدولة، رغم اعلان الرئيس فى ذلك الوقت عن اتخاذ اللامركزية مشروعا قومياً.
تشير هذه المسيرة لدولتين مختلفتين من حيث طبيعة النظام السياسى وشكل الدولة إلى نتيجة واحدة تجمع بين تجربتيهما، وهى انه بدون رغبة النظام السياسى فى اعطاء الصلاحيات اللازمة للوحدات المحلية، وفتح المجال السياسى للمشاركة والرقابة على تنفيذ هذا الهدف، فلا يمكن الحديث عن الوصول لأهداف الحكم الرشيد، ولا يمكن تفعيل سياسات المحاسبة والشفافية، عوضا عن التطور السياسى للمجتمع المحلى، وبدلا من تركيز المعارضة والاحزاب السياسية مجهوداتها، للإنتشار المحلى، تنشغل فى معاركها مع السلطة المركزية. وهو مايعرقل مسيرة التطور للمؤسسات المحلية فى الدول الأفريقية.
إن المجتمعات الأفريقية مجتمعات تعددية بسماتها التاريخية والواقع المعيش، وهى أقرب فى نظمها لسياسات اللامركزية، وتعتبر المجالس التقليدية للعديد من الجماعات سواء فى شرق أفريقيا او غرب أفريقيا أو فى الجنوب الأفريقى، نماذج بارزة للمشاركة السياسية، مما يؤكد ان القارة لاتزال تحتاج للمزيد من الجهد، لتعزيز الديمقراطية والحكم الرشيد، وهو ما لن يتأتى إلا بمواجهة الأمراض القاتلة، ومحاربة الفقر والأمية. وهو الدور الذى يجب ان تشارك الهيئات الدولية، والدول المتقدمة فى دعم الدول الأفريقية فى سيرها نحوه.
قائمة المراجع
أولاً: المراجع باللغة العربية
دستور الدولة المصرية لسنة 1923.
دستور الجمهورية المصرية لسنة 1956.
دستور جمهورية مصر العربية لسنة 1971.
دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2013.
قانون رقم 57 لسنة 1971، قانون رقم 52 لسنة 1975، قانون رقم 43 لسنة 1979، قانون رقم 50 لسنة 1981، قانون رقم 26 لسنة 1982، قانون رقم 145 لسنة 1988.
مرسوم بقانون رقم 116 لسنة 2011.
د. سمير محمد عبدا لوهاب، الحكم المحلى فى ضوء التطبيقات المعاصرة(القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2005).
دكتور اسماعيل صبرى مقلد، دراسات فى الإدارة العامة، مع بعض تحليلات مقارنة(القاهرة: دار المعارف بمصر، 1967).
محمد محمد بدران، الحكم المحلى فى المملكة المتحدة” دراسة تحليلية ( القاهرة: دار النهضة العربية، 1991).
دليل تطبيق اللامركزية فى قطاع التنمية المحلية، وزارة التنمية المحلية، القاهرة، 2009.
ثانياً: المراجع باللغة الانجليزية
Constitution of the Federal Democratic Republic of Ethiopia – FDRE, 1995.
Fumihiko, Saito, “ Decentralization and Local Governance: Introduction and Overview ”, Fumihiko Saito (Editor), Foundations for Local Governance: Decentralization in Comparative Perspective (Heidelberg: Physica – Verlag A Springer Company, 2008).
Chanchal, Kumar Sharma, “ Decentralization Dilemma: Measuring the Degree and Evaluating the Outcomes ”, The Indian Journal of Political Science( Meerut: Indian Political Science Association, Vol. LXVII, No. 1, Jan-Mar., 2006).
Daniel, Treisman, The Architecture of Government: Rethinking Political Decentralization (Cambridge: Cambridge University Press, 2007).
Francesco Kjellberg, “ The Changing Values of Local Government ”, Annals of the American Academy of political and social Science ( New York, Sage Publications, Inc., vol. 540, July 1995).
Caroline Andrew and Michael Goldsmith , “ From Local Government to Local governance: and Beyond ”, International Political Science Review(New York, Sage Publications, Inc., Vol. 19, No. 2, Apr., 1998).
Rosario G. Manasan, Indicators of Good Governance: Developing and Index of Governance Quality at the LGU Level, Discussion Paper No. 99-04, UNDP & Philippine Institute for Development Studies, March 1999).
Daniel Kaufmann, Aart Kraay and Massimo Mastruzzi, “ The Worldwide Governance Indicators: Methodology and Analytical Issues ”, Policy Research working paper No. 5430, The World Bank, Development Research Group, September 2010.
Zemelak Ayele, “ Local Government in Ethiopia: Still an Apparatus of Control? “, Law,Democracy & Development Journal of the Faculty of Law (Western Cape: University of the Western Cape, The Faculty of Law, Vol. 15, 2011).
Zemelak Ayele, Local Government in Ethiopia: Adequately Empowered? ( LL.M Degree, The Faculty of Law, University of the Western Cape, 2008 ).
Serdar yilmaz, Varsha Venugopal, Local Government Discretion and accountability in Ethiopia, Working Paper 08-38 ( Georgia State University, Andrew Young School of Policy Studies, International Studies Program, Georgia (USA), December 2008).
Ghebrehiwet Baraki, “The Making of States and Local Government in the Multi-Ethnic Federation of Ethiopia”, Working Paper, Institute for the Study of Regionalism, Federation and Self-Government ( ISSIRFA), Milano,2009.
Ethiopia: Legal and Judicial Sector Assessment, The World Bank, Washington DC, 2004.
[1] د. سمير محمد عبدا لوهاب، الحكم المحلى فى ضوء التطبيقات المعاصرة(القاهرة: جامعة القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، 2005) ص 1.
[2] Fumihiko, Saito, “ Decentralization and Local Governance: Introduction and Overview ”, Fumihiko Saito (Editor), Foundations for Local Governance: Decentralization in Comparative Perspective (Heidelberg: Physica – Verlag A Springer Company, 2008) P. 3 .
[3] Chanchal, Kumar Sharma, “ Decentralization Dilemma: Measuring the Degree and Evaluating the Outcomes ”, The Indian Journal of Political Science( Meerut: Indian Political Science Association, Vol. LXVII, No. 1, Jan-Mar., 2006) P. 53.
[4]دكتور اسماعيل صبرى مقلد، دراسات فى الإدارة العامة، مع بعض تحليلات مقارنة(القاهرة: دار المعارف بمصر، 1967)، ص 251 .
[5] ، ص 251 . المرجع السابق
[6] Daniel, Treisman, The Architecture of Government: Rethinking Political Decentralization (Cambridge: Cambridge University Press, 2007) P.23.
[7] Chanchal, Kumar Sharma, Op.Cit., P.53.
[8] Francesco Kjellberg, “ The Changing Values of Local Government ”, Annals of the American Academy of political and social Science ( New York, Sage Publications, Inc., vol. 540, July 1995) P. 44.
[9] د. سمير محمد عبدا لوهاب، م س ذ، ص 13 .
[10] محمد محمد بدران، الحكم المحلى فى المملكة المتحدة” دراسة تحليلية ( القاهرة: دار النهضة العربية، 1991) ص 56
[11] المرجع السابق ، ص 63 .
[12] د. سمير محمد عبدا لوهاب، ، ، م س ذ ، ص 18 .
[13] Caroline Andrew and Michael Goldsmith , “ From Local Government to Local governance: and Beyond ”, International Political Science Review(New York, Sage Publications, Inc., Vol. 19, No. 2, Apr., 1998) P. 106.
[14] Rosario G. Manasan, Indicators of Good Governance: Developing and Index of Governance Quality at the LGU Level, Discussion Paper No. 99-04, UNDP & Philippine Institute for Development Studies, March 1999, P. 6.
[15] Adnan Ul Haque, Op.Cit., P. 14.
[16] Daniel Kaufmann, Aart Kraay and Massimo Mastruzzi, “ The Worldwide Governance Indicators: Methodology and Analytical Issues ”, Policy Research working paper No. 5430, The World Bank, Development Research Group, September 2010. P. 4.
[17] Idem.,
[18] ، م س ذ ، ص 280 . دكتور اسماعيل صبرى مقلد
[19]الفصل الخامس، ص 7. دستور الدولة المصرية لسنة 1923،
[20] دستور الجمهورية المصرية لسنة 1956، الفرع الثالث، ص 12 .
[21] ، م س ذ ، ص 282 . دكتور اسماعيل صبرى مقلد
[22] دستور جمهورية مصر العربية لسنة 1971، الفرع الثالث، ص 14 .
[23] قانون رقم 57 لسنة 1971، قانون رقم 52 لسنة 1975، قانون رقم 43 لسنة 1979، قانون رقم 50 لسنة 1981، قانون رقم 26 لسنة 1982، قانون رقم 145 لسنة 1988، تمثل هذه المجموعة من القوانين أساس التنظيم المحلى للإدارة المحلية فى مصر.
[24] دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2013، الفرع الثالث، ص 45.
[25] دليل تطبيق اللامركزية فى قطاع التنمية المحلية، وزارة التنمية المحلية، القاهرة، 2009، ص 6.
[26] مرسوم بقانون رقم 116 لسنة 2011.
[27] Zemelak Ayele, “ Local Government in Ethiopia: Still an Apparatus of Control? “, Law,Democracy & Development Journal of the Faculty of Law (Western Cape: University of the Western Cape, The Faculty of Law, Vol. 15, 2011)P.138.
[28] Zemelak Ayele, Local Government in Ethiopia: Adequately Empowered? ( LL.M Degree, The Faculty of Law, University of the Western Cape, 2008 ) P.21.
[29] Zemelak Ayele, Local Government in Ethiopia: Still an Apparatus of Control?,Op.Cit.,P.139.
[30] Idem.
[31] Ibid.,P.22.
[32] Serdar yilmaz, Varsha Venugopal, Local Government Discretion and accountability in Ethiopia, Working Paper 08-38 ( Georgia State University, Andrew Young School of Policy Studies, International Studies Program, Georgia (USA), December 2008) P.2.
[33] Ghebrehiwet Baraki, “The Making of States and Local Government in the Multi-Ethnic Federation of Ethiopia”, Working Paper, Institute for the Study of Regionalism, Federation and Self-Government ( ISSIRFA), Milano,2009, P.5.
[34] Constitution of the Federal Democratic Republic of Ethiopia – FDRE, Article 50: Structure of the Organs of State,P. 17.
[35] Serdar yilmaz, Op.Cit.,P.4.
[36] Ethiopia: Legal and Judicial Sector Assessment, The World Bank, Washington DC, 2004, P.4.