المركز العراقي الافريقي للدراسات الاستراتيجية
الموقع الرسمي

قمة جدة للأمن والتنمية بين الثابت الامريكي والتغير العربي

0

د: هاشم العوادي

مدير المركز

لقد كان غزو العراق للكويت وتفكك الاتحاد السوفيتي في بداية تسعينات القرن الماضي من اخطر المتغيرات العالمية التي ساهمت وبقوة في حسم التنافس الاقتصادي على واحدة من اهم المناطق في العالم والتي اعتبرتها نظريات الجيوبوليتيك الامريكية قلب العالم، وان من يسيطر عليها يمسك بعنق الزجاجة، ويضمن استمراره كقوة عظمى في النظام الدولي، وقد اجتهدت الولايات المتحدة الامريكية منذ ثلاثينات ذلك القرن على تجذير وجودها الاقتصادي حول اكبر مخزون للطاقة في العالم، وتعهدت بحماية الانظمة السياسية الحاكمة فيها مقابل تأمين الطاقة في اوقات السلم والحرب.

وبدى حرص الولايات المتحدة الامريكية على حماية هذه المنطقة واضحا بعد الغزو العرقي للكويت اب ــ اوغسطس 1990، اذ لم يتخلف الرؤساء الستة الذين وصلوا الى البيت الابيض منذ تلك الفترة وحتى اليوم عن زيارة المنطقة عموما والسعودية على وجه الخصوص. بل بدأت الولايات المتحدة الامريكية تتعامل مع المنطقة على انها كتلة جغرافية واحدة ذات اهمية جيوبوليتيكية، ولذا بدأت العمل على ترسيخ هذه الرؤية من خلال الية التعامل المجموعي وبالاستفادة من التكتلات السياسية والاقتصادية الموجودة في المنطقة والتي من ابرزها مجلس التعاون الخليجي الذي يضم ستة دول ذات المخزون الطاقوي الكبير والهائل والذي طالما كانت الولايات المتحدة الامريكية تفزع اليهم وخصوصا السعودية وقطر ــــ اكبر مصدري النفط والغاز في المنطقة ـــــ لمعالجة الازمات التي يتعرض اليها سوق الطاقة العالمي سواء من ناحية ارتفاع اسعار الطاقة او المساهمة في دعم قرار الحصار الامريكي والغربي على بعض الدول مثل ايران وفنزويلا ومؤخرا مواجهة تداعيات الحرب الروسية الاوكرانية على مستقبل الطاقة في اوربا وتعويض سوق الغاز الاوربي الفقير، اضافة الى تفعيل دورها في مسرح الاحداث الاقليمية والدولية وجعلها جزءا من الادوات الامريكية في مواجهة تحدياتها.

وانسجاما مع هذا التوجه فقد بدأت الولايات المتحدة الامريكية بالعمل على توسيع طاولة الحوار الخليجية لتضم اطرافا لاتقل اهمية في سباق المحاور الجديد وليمنح كلا من العراق ومصر والاردن مقاعد حول هذه الطاولة الامريكية والتي ربما ستثير ازمة مستقبلية وسط الجامعة العربية لاتهام الولايات المتحدة الامريكية بممارسة سياسة الانتقاء في التعامل مع الدول العربية، وهي نفس السياسة التي اقرتها امريكا منذ العام 2000 وعملت بها طبقا لقانون النمو والفرص (AGOA)، والذي يتم بموجبه انتقاء مجموعة من الدول الافريقية ذات الاهمية الاقتصادية بالنسبة اليها.

اذا كانت زيارات جورج بوش الاب الثلاث الى المنطقة بعد تحرير الكويت بداية لاستراتيجية امريكية جديدة تقوم على اساس التحول من حماية المصالح الاقتصادية الامريكية في الخليج الى استراتيجية الادارة الاشراف المباشر عبر انشاء القواعد العسكرية الثابتة في المنطقة، فان زيارتي ابنه الى المنطقة كانت تمثل ترسيخا لهذا التوجه وتوسيعا له بعد احتلال الولايات المتحدة الامريكية للعراق وانغماسها في الصراعات الاقليمية في المنطقة، وهو الانغماس الذي حاول الرئيس اوباما التخفيف منه من خلال منحه لبعض القوى الاقليمية كإيران للمشاركة في الترتيبات الامنية للمنطقة، واعلانه عن سحب القوات الامريكية من العراق والذي اعتبرته دول الخليج نوعا من انواع التراجع والتخلي الامريكي عن شركاءها في المنطقة ولذلك سارع الرئيس ترامب الى تلافي هذا ( الانحراف ) في التوجه الامريكي للمنطقة  ليملأ جيوبه ب(460) مليار دولار امريكي كضريبة عن حماية انظمتها السياسي، خصوصا بعد تصريحه المثير للجدل والذي اشار فيه الى  إن ملك المملكة العربية السعودية “قد لا يبقى هناك لمدة أسبوعين” بدون دعم عسكري أمريكي” وهو ما اعتبرته الصحافة السعودية اساءة من الرئيس الامريكي.

اليوم يصل الرئيس جون بايدن الى السعودية قادما من اسرائيل لحفظ سلسلة التواصل الرئاسي للولايات المتحدة الامريكية مع المنطقة، الا ان هذه الزيارة وان كانت تأتي في ضمن الاستراتيجية الامريكية الثابتة في التعامل مع المنطقة الا انها ربما تحمل رسائل ودلالات مهمة ينبغي عدم تجاوزها، والوقوف عندها وتحليلها. كمسار الرحلة ومدى ارتباطه بالاعلان السعودي عن فتح المجال الجوي امام الرحلات الجوية الاسرائيلية، ومخالفة العرف الدبلوماسي في استقبال الرئيس جون بايدن، اذ كان في استقباله امير منطقة جدة وسفيرة السعودية في واشنطن، في الوقت الذي استقبل فيه ولي العهد السعودي الزعماء العرب المشاركين في القمة بنفسه، وايضا دلالات زيارة الرئيس بايدن الى  الضفة الغربية التقى خلالها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتجنبه الخوض في تطورات القضية الفلسطينية والاكتفاء بالحوار حول “تعزيز الفرص الاقتصادية” ولا ندري ماهي الفرص الاقتصادية التي يتحدث عنها بايدن فضلا عن تعزيزها مع سلطة فاقدة لسيطرتها على اراضيها ؟

يرى بعض المتابعين والمحللين ان هبوط طائرة الرئيس الامريكي في مطار تل ابيب والانطلاق منها الى مطار جدة هي رسالة مزدوجة يوجهها الرئيس بايدن الى الانظمة السياسية العربية من جهة والى الشعوب الاسلامية فضلا عن العربية من جهة اخرى، والاولى يمكن قراءتها على انها اشارة واضحة الى مكانة اسرائيل في العقيدة الامنية والاستراتيجية الامريكية، فقمة التنمية والامن التي يتم عقدها في جدة بين ابرز دول المنطقة لابد ان تأخذ في اعتبارها جيدا ضرورة الدور الاسرائيلي في مخرجاتها، وعلى الحاضرين ان يدركوا ضرورة الدور الاسرائيلي في الترتيبات الاقتصادية والامنية للمنطقة، بمعنى ان على الدول العربية المشاركة ان تغادر حالة المقاطعة والتهديد الامني لاسرائيل، وعليها ان تبدأ باتخاذ خطوات اكثر واسرع ــــ لاسيما مع ضغوطات المنافسة الروسية والصينية ــــ لاندماجها الاقليمي على اساس الشراكة والتعاون، واذا كانت السياسة عاجزة عن تحقيق هذه الاهداف، وفاشلة في ترويض شعوب المنطقة، فالحراك الديني الجديد تحت غطاء اتفاقية ابراهام يمكن ان يساهم في دعم هذا المشروع، من خلال الدعوة الى السلام والتعايش المشترك بين الثقافات والديانات، وهو ما يمكن ان يكون استراتيجية جديدة لدى الغرب عموما والولايات المتحدة الامريكية على نحو الخصوص تسعى من خلالها الى اعادة تشكيل الصورة الذهنية عن الاسلام في المدرك الغربي من خلال تجاوز الذاكرة الغربية والامريكية لأحداث 11 من سبتمبر وفوبيا الاسلام والتركيز على الخطر الصيني والروسي والايراني. وربما يكون القرار السعودي بفتح الاجواء السعودية امام حركة النقل الجوي الاسرائيلي هي الترجمة الحقيقية لاستيعاب هذه الرسالة وتطبيقها فورا، وقد ظهر المكر والدهاء السياسي الامريكي في تضليل شعوب المنطقة عموما والسعودي على نحو الخصوص من خلال تصدي الرئيس الامريكي لتطبيق القرار السعودي عمليا لتكون طائرته اول طائرة تنطلق من مطار تل ابيب لتهبط في مطار جدة. وهو ما يكشف عن خلفيات هذا القرار، وانه جاء طبقا لإرادة امريكية، وايضا تكون عملية اخراج القرار السعودي بطريقة تتحاشى فيها غضب الراي العام الذي ما يزال ينظر الى اسرائيل على انها كيان غاصب ويرفض التعامل معه.

يرى البعض بان القرار السعودي لم يكن وليد الساعة وانما كان قرارا مدروسا تم التمهيد اليه من خلال عدة خطوات سابقة كان ابرزها ما اعلنته وكالة الانباء السعودية عن موافقة هيئة الطيران المدني السعودية في الثاني من سبتمبر/ ايلول 2020 على طلب الخطوط الجوية الاماراتية بالسماح لطائراتها بعبور أجواء المملكة لرحلاتها المتوجهة الى كافة دول العالم والتي بالطبع منها اسرائيل. اضافة الى انه في العام الماضي تم هبوط طائرة تحمل شعار المملكة العربية السعودية في مطار بن غورين قيل انها مؤجرة من قبل شركة هاي فلاي البرتغالية، كما اشارت بعض المصادر الاعلامية الى هبوط طائرة اسرائيلية من طراز “بومباردييه تشالنجر 604″، في احد المطارات السعودية

الرسالة الاخرى التي يمكن ان يتلقاها المتابع لرحلة الرئيس بايدن تتعلق باختيار مطار الهبوط وهو مطار جدة، ومن المعلوم ان مدينة جدة ترتبط بالبعد الديني للمملكة السعودية اذ ان مطارها تم انشاؤه خصيصا لاستقبال رحلات الحجاج والمعتمرين خصوصا، لذا فان هبوط طائرة الرئيس الامريكي في توقيت يزدحم فيه هذا المطار بالطائرات الناقلة لحجاج بيت الله الحرام بعد انتهاء مراسيمهم يمكن اعتبارها رسالة موجهة الى الشعوب الاسلامية تبين من خلالها حجم التأثير الامريكي في ملف التطبيع وانه يتجاوز الارادة الشعبية للمجتمع الاسلامي وهو ما اكده الاعلامي والمحلل السياسي ايدي كوهين في بعض لقاءاته التلفزيونية ومن على الفضائيات العربية من ان اسرائيل لن تنظر الى الشارع العربي والاسلامي الرافض للتطبيع مع اسرائيل وانها ستكتفي بالتعامل مع الانظمة السياسية لهذه الشعوب والتي دخلت مرحلة الهرولة نحو التطبيع فوق الطاولة وليس تحتها.

ان استقبال هذا المطار لطائرة قادمة من مطار تل ابيب مع غض النظر عن هويتها وجنسية راكبيها تمثل قمة التحدي لمشاعر المسلمين، وهذه الرسالة ربما لايمكن استيعابها في الوقت الحاضر وذلك بسبب عملية التنميط التي تمارسها وسائل الاعلام لإدراك المتلقي العربي، ومحاولة تصوير القمة على انها تمثل قمة نجاح الدبلوماسية العربية في ظل المتغيرات السياسية التي يشهدها النظام الدولي. الا انها في المستقبل القريب ربما ستكون اكثر وضوحا

نقلا عن موقع مجلة جي فوكس gfocusmagazine.com

شاركنا رأيك

بريدك الإلكتروني مؤمن ولن يتم اظهاره للعلن.